التمحص في الموضوع في طريقة جادة تمنع الباحث أن يعطي أحكاماً مسبقة, في مستهل العنوان وجه الكاتب داود السلمان عنوان بحثه (البهلول شخصية حقيقة أم خرافية) واختار مدخلاً للبحث ليعطي حكماً مسبقاً، مبتدئاً بمسائل حقيقية، فالتاريخ فيه المزور، وفيه قصص وحكايات، لكن هذه الشخصية البهلولية لا تقرن مع شخصية عبد الله بن سبأ الخرافية، والتي ركبت لمغزى سياسي طائفي مقيت، ليجعلوا منه مذهباً من اتباعه للطعن.
والكاتب يقول: ليس للبهلول وجود حقيقي إلا في بعض المصادر التاريخية غير المعتمد عليها، ولا أعرف كيف أقرن البهلول بنظرية ديكارت، ونحن نسأله: هل البهللة ظاهرة غريبة في المجتمعات التي حكمها سياسيو الدين، فظاهرة التبهلل ليست من ابتكار البهلول، والبهاليل كثيرون, ادعو الجنون أو البلاهة أو البلادة وهم عقلاء، فالبهلول رجل حكيم يتبع أساليب متقنة ودقيقة.
وصحيح أن البهلول حاز على شهرة واسعة فاقت من سبقه ومن لحقه من البهاليل, وأول من تظاهر بالجنون هو الطفيل بن حكيم الطائي الذي أسر في وقعة الفتح مع القراء، فأراد الحجاج أن يقتل الطفيل، فأوهم الطفيل الحجاج بأنه قد ذهب عقله، فجعل لا يسأله عن شيء الا اجابه بخلاف سؤاله، فقال الحجاج: ذهب والله عقل الرجل، ويقول ابن عياش وهو عالم الشام وعمدتها: كان طفيل بن حكيم من أعقل الناس، لكنه أوهم الحجاج بأنه مهبول، فكان تظاهر البهاليل هو التقية والملاذ من بطش الحكام والجبابرة والمتسلطين، وكانت الكوفة من البهاليل وأغلبهم من أهل الزهد والتقوى مثل بهلول أبي نعيم، ومحدث الرواة ابن بابويه، والبهلول بن حسان بن سنان، وكان من أهل الأنبار معروفاً بزهده وعلمه، وأبي القاسم بن محمد بن إسحاق البهلول والذي كان قاضياً. نحن مع الكاتب كل الموروث يحتاج الى غربلة والغربلة تعني المرور عبر المصادر الموثوقة، أما الاضافات المفتعلة فهي واضحة ومعروفة؛ كونها تقصد تخريف الشخصية وجعلها وهمية، ومن الأمور التي لا تنطلي على الواقع حيث نجد قسماً منها يميل الى تضخيم صورة الرشيد، وإعطاء المنزلة الحكيمة الصبورة الواهبة.
كما هو معروف أن شخصية البهلول شخصية حقيقية، والاضافات قد تكون أحياناً لترسيخ حكمة، مثلاً نصح البهلول يوماً هارون الرشيد بكلمة فأمر له بالمال، قال: ما كنت لأسوِّد وجه الموعظة.
والمصادر المعتبرة التي نقصدها تؤكد أن هارون كان يبحث عند القضاة عن فتاوى القتل والفتك والابادة، ولو أخذنا حكاية البهلول من تلك المصادر اليقينية لأدركنا أنه شخصية حقيقية لا اشكال فيها، وهو من أصحاب الامام الصادق (عليه السلام)، وكان يسعى في قتل الامام الكاظم (عليه السلام)، ويحتال في ذلك، فأرسل الى حملة الفتوى يستفتيهم بإباحة دمه، اذ هو يعرف ماذا يريد من القضاة، وليس كما يصور البعض انه يقف امام البهلول، ويقول: عظني، والرجل تبهلل؛ كي يتخلص من القضاء ومسؤولية الفتوى، وتبهلل باستشارة الكاظم (عليه السلام) حين أمره بإظهار الجنون ليسلم، وقيل أن هارون أراد منه القضاء، ولذلك عندما قال الناس جُنَّ البهلول، فقال هارون: ما جُنَّ بهلول، ولكن فرَّ بدينه منا.