كان والدي (رحمه الله) محباً وديعاً, ولازالت في مخيلتي كلماته وهي أشبه بناقوس يدق في عوالمي التي احاول أن اخفي بعضها رغما عني, واخرى تتناغم مع مسيرة التربية التي احاول نشرها بين اولادي وطلبتي.. ومن محطات تلك الذاكرة التي احاول ان اتبناها.
حديث أبي (رحمه الله) مع أخي الصغير الذي كان يغذيه بمبادئ الشرف والوفاء والتضحية, كما كان يفعل معي في صغري.. كبر أبي ومرت السنون وبدأت علامات الشيخوخة تداعب مفاصله وعيونه.. فكان بحاجة الى من يأخذ بيده ويهتم به وخصوصا انه مولع بالزيارة لأهل البيت والصلاة في الحسينيات القريبة على بيتنا.
كان يردد: ((لا يمكن ان تصلي في بيتك والحسينية او الجامع قريبة على بيتك؟) ربما يريد القول: ان ثواب الصلاة في هذه الاماكن اكثر بكثير من صلاتك في البيت.. فكان أخي الصغير قد نذر نفسه لهذه المهمة منذ صغره, لذلك أطلق عليه والدي: (فانوس عيوني) حتى أننا نسينا اسمه والعائله تطلق عليه (تعال فانوس عيوني, روح فانوس عيوني) وهو يشعر بالزهو والفخر رغم أننا نشعر بعض الاحيان أنه ضجر؛ لأنه يريد اللعب مع أقرانه في معظم الاوقات التي يريده أبي لإيصاله الى الحسينية القريبة, وخصوصا صلاة المغرب والعشاء.
وذات يوم ذهب والدي لوحده الى حسينيته المعتاد الذهاب اليها والتي من الصعوبة بمكان الوصول اليها بالنسبة لوالدي لوحده؛ لأنها تقع بين الدور والشوارع غير (المبلطه) والتي تبعد عن دارنا قليلاً, الامر الذي جعلنا في حرج حيث ان قدمه قد زلت في احدى المناطق الهشة، فسقط ارضا ساعده بعض الشباب في المنطقة للنهوض والعودة به محمولا الى دارنا.
لقد تألمنا كثيرا.. وعنفنا انفسنا كثيرا وبعفوية قالها سجاد: اكان مهم جدا يا والدي الذهاب بمفردك؟ ما كان عليك انتظاري؟ ضحك والدي قائلاً: هون عليك يا فانوس عيوني اردت اختبار نفسي في الذهاب بمفردي وللأسف خانتني عيوني, ومن ذلك الوقت لم يفارقه (سجاد) خصوصا في صلاة المغرب والعشاء طيلة عمره (رحمه الله) كان أبي دائم الحضور في مجالس العزاء..
(2)
ذات يوم سمعت أخي الذي بدأ يكبر شيئا فشيئا يسأل والدي: كل يوم تأتي بي الى هنا يا ابي؟ الا تمل من هذه المجالس الحسينية، بكاء ولطم؟ فأجابه الوالد: لعل الدمع يشفي قهرنا, طول الزمان يا ولدي كنا كمن كان اخرس ينادي في سره: يا حبيبي يا حسين.
كان والدي يدرك ما كان يشعر به أخي سجاد , وتذكرت أنني سألت والدي ذات السؤال حين كنت مصاحبا له للكثير من هذه المجالس, وكانت له طريقه او اسلوب لطيف في تعامله معنا، كان يعطينا فرصه للاجابة عن كل التساؤلات التي تهتم بالمساجد وزيارة الائمه (صلوات الله عليهم أجمعين).
لازلت اتذكر أنه أهداني كتاباً عن واقعة الطف، وكان يطلب مني قراءة بعض نصوصه امامه ويشجعني بكلمات الاعجاب بصوتي وإحساسي الامر الذي دعاني ازداد تمسكا بالقراءة امامه حتى تجلت أمامي مصيبة الحسين والظلم الذي وقع له ولأصحابه الاخيار.
وكان يغذيني بمفردات كانت صعبة عليّ فهمها في ذلك الوقت عن التضحية والقيم والشهادة والايثار.. لذلك قال لسجاد: بني اريد ان تقرأ لي بعضاً من هذا الكتاب الذي يختص بشخصيات وقفوا مع الحسين (عليه السلام) في واقعة الطف.
وبالفعل ادركت أن ابي يمارس ذات الاسلوب المحبب مع سجاد ونجح في ذلك.. وتمر السنون وسجاد يناقش ابي في كثير من المواقف وهو يردد: أبي كم كان الظلم والباطل جبارا بحيث يمنع الناس من القول لبيك يا حسين؟ فيرد عليه ابي: لا تكن منهم بني.. لو أغفل قلب المرء ذكر الحسين لتبرت منه أحجار الكواكب في السماء.
يا ابي.. هل الحسين (عليه السلام) عاطفة متأججة في نفوس المسلمين؟ ام مجرد تفاعل مشاعر مع واقعة أليمة انتهت بقتل الابناء والاحباب وسبي النسوة، وكلهم من ال بيت رسول الله (ص) وبلا رحمة؟
فيقول له أبي: لا بالطبع. وإن كانت الواقعة تستحق البكاء ولكن الواقعة بمجملها مجموعة مبادئ وقيم, فيها إحقاق للحق, فيها المروءة والمساواة في امتزاج الدم من اجل اعلاء راية الله أكبر الذي جاء بها سيد الخلق اجمعين محمد (ص).
ويلح سجاد بالسؤال لوالدي: هل الحسين بكاء؟ وهل هذا البكاء يقربنا من محبة الحسين (عليه السلام)؟ فيجيبه الوالد: لا يا بني، البكاء تعبير عن صرخة الحق في غضبه.. الحسين يا بني لم يكن يوماً رفيقاً او عديلاً للرياء.. وكما ترى جاءت سفن بني أمية مصحوبة بكل فتن الماضي وظلم الابرياء كما يحصل اليوم، وسفننا تهوي ذلك يا بني سر بكائي.. خذ يا بني من الحسين العِبرة والعَبرة؟ فيجيبه سجاد: كيف؟ فيقول له: بين يديك كتاب خروج الحسين ومن معه الى آخر الخطاب، ستجد الحسين شيئاً اخر؟ تعلم من جون، ومن الحر الرياحي، وبقية الانصار الذي قال عنهم.
(3)
سيدي ومولاي ابا عبدالله (ما رأيت رجالا مثل أصحابي) تعلم بني كيف تكون حسينيا.. وانس البكاء..
وهكذا استمر والدي بتغذية أخي سجاد روحيا وفكريا وكأنه يحاول إعداده مقاتلا حسينيا كما فعل معي.. كان يحدثه عن (اسلم التركي) و(جون) مولى ابي عبدالله والحر الرياحي وغيرهم.
كل يوم له يثير فيه السؤال بعد السؤال؟ وهو يقول له: يا بني إن قضية الحسين الشهيد (عليه السلام) قضية إنسانية لا تنحصر بدين ومذهب وقومية وكل أصحابه من هؤلاء معه (عليه السلام).
واستمرت الثورات من بعد الواقعة بقاعدة متنوعة من النصارى ومن مختلف المذاهب والقوميات: كالعرب والاكراد والفرس والاتراك والروم؛ لأنهم يرونه قائداً وثائراً ومصلحاً عالمياً لا يحده دين ولا مذهب ولا قوميه ولا وطن..
بعد الهجمة الظلامية التي طالت محافظاتنا واستشرى القتل على الهوية واستطاعوا الدخول في عقول بعض المغفلين ان اسرع وسيلة لدخول الجنة هي أن تقتل أكبر عدد من الناس.. اوهموهم أنهم يجاهدون بأنفسهم وان نصيبهم الجنة, فجروا المراقد الشريفة حاولوا خلق فتنة, لها اول وليس لها آخر..!
فانبرى الشجعان بصدورهم لحماية مقدساتنا، ولكن اصحاب الضلالة تمادوا في غيهم حتى انهم يقتلون الشيوخ والاطفال ويقطعون الطرق.. في حينها اتيت الى والدي (رحمه الله) طالبا منه السماح, للدفاع عن سيدتي ومولاتي زينب.. لازلت اتذكر كلماته ترن في مسمعي: تبا لي يا ولدي ان أنهيك عن امتطاء الصهوة الغراء.. اذهب وعين الله ترعاك.. خاب من ظن حسينا قد رحل، انما يرحل كي يبقى عزيزا في عقول الانقياء.
وتكرر الموقف مع اخي سجاد (رحمه الله) حينما اعلنت المرجعية العليا فتوى الدفاع المقدسة والتي كانت مفخرة سجلها التاريخ بنور للمرجعية الدينية والتي انبرى لها خيرة شبابنا وشيبتنا.
كان الموقف صعبا جدا لوالدي, (أنا) في سوريا وأمي امرأة كبيرة، وأبي كما يقولون وهن العظم وتعبت العيون ولكن الاصرار والعزيمة والثبات على المبادئ التي غذانا بها أبي لابد ان تجد مكانا في حياتنا، وبالفعل قال سجاد لوالدي: أبي قد يكون وضعكم صعباً بعدنا فماذا ترى؟ بكى أبي في تلك اللحظة وهو يردد: اذهب يا ولدي امتط الصهوة مثل اخيك فنحن لنا رب كريم كن مارقا كالسهم في روح شرار الناس.
الوطن يا ولدي يحتاج القربان ليتني اقف معكم بالدفاع عن وطني وعرضي ومقدساتي.. بكت أمي وهون عليها أبي قليلاً, وسار مع رفقة الشرف والعقيدة في انتزاع الاراضي السليبة من الكفرة والطامعين الظلاميين.
كان يكتب لوالدي الرسائل ويشرح له عن هذه الرفقة الشجاعة التي تضحي بكل شيء من أجل الوطن.. ويقول له: يا والدي العزيز هنا تتجسد الروح الابية لحشدنا الشعبي والتي تذكرني بأصحاب الحسين (عليه السلام) في سباقهم للاستشهاد.
الصورة أمامي بحجم الكون.. الا انني أبكي يا أبي مع كل أذان يرفع كل أذان ابكي بكاء مُراً؛ لأنني اتذكرك وانت تريد الوصول الى الحسينية بمفردك؟ أكيد أنك تبكي مثلي كان الله في عونكم.
مرت شهور على التحاق سجاد في مواقع الشرف والكرامة مع شباب الحشد الشعبي وكان أقرانه يشيدون ببسالته وحبه لمساعدة الغير، كأقرانه من رجال الحشد الذين طرزوا الحياة بالكرامة.
كان أبي يترقب الايام التي يأتي بها, إجازاته يخصصها للوالد والوالدة في زيارة الائمة الاطهار.. تأخر كثيرا هذه المرة.. والدي بدأ يردد مع نفسه: أنت من جدت بروحك, اين انا منك, لم أملك اليوم سوى البكاء والمناجاة, قتلوك, نحرك الاشقياء, ذُبحت اليوم كذبح السماء.. وفعلاً عانقت روح سجاد روح الشهداء..
مرت الايام حبلى بالحزن بالنسبة لوالدي, ولم يدم طويلاً بعده, كنت أسمعه, وهو يبكي, يحدث نفسه كثيرا ويردد: بني سجاد نم قرير العين.. كلماتك أسمعها: هل الحسين بكاء؟ لا.. لا يا بني، الحسين قضية، أنت ومن معك من الحشد, حين لبوا النداء صارت عنوان للإباء.