في كل مدينة نمضي اليها نرى صورهم تزين الشوارع والطرقات، نتأمل ملامح شبابهم وغضاضة أعمارهم فتتكسر في صدورنا العبرات، ثم ما نلبث إلا قليلاً لنبتسم حين ندرك انهم الأحياء ونحن الأموات.
نعم، فبتضحيات الشهداء عادت لأرضنا الحياة وعمّت البركات، وحفظت الأعراض والمقدسات؛ لذا يحق لنا عند الحديث عنهم أن تتوارى خجلاً الكلمات، ويخبو عند تمجيدهم وهج العبارات.
فما عسانا نقول فيمن رفعوا راية الفتح من سنا كربلاء، وتوضؤوا بشجاعة ابطالها فحملوا راية العز والفداء، وصنعوا النصر المؤزر بفيض الدماء، بعد ان عادت من جديد ملحمة الطف واعتلى صوت الاباء، وهتفت حنجرة الحق من على منبر سيد الشهداء تنادي: الا من ناصر ينصر الإسلام، فأطبق الصوت سمع الدهر ووصل صداه إلى كل الارجاء، فهبّ رجال الله الاشداء، ملبين النداء، هاتفين: لبيك يا بن الأتقياء.
لبوا دعوة الحق التي اطلقها المرجع الاعلى، كما يلبي المطر نداء الأرض العطشى، واقبلوا يتهافتون على المنايا بكل شغف ورجاء، بعد ان ارتضعوا حب الإسلام مع اللبن المعتق بحب أئمة الهدى من صدور الأمهات وحسن تربية الآباء، واشتد عودهم في مدرسة الولاء لمحمد وآله النجباء.
شباب يتفتح الورد من أكمامهم، وتمتلئ صدور أمهاتهم بروائع أحلامهم، تساقطوا في الميدان كوريقات شجر اضناها الشوق إلى الرحيل، فاحتفظ التراب الذي امتزج بنزف جراحهم بكل حكاياهم، ودون قصة عشق قديم جميل.
قصة شباب وكهول اجتمعوا من غير ميعاد في أرض يشترك كل أهلها بنعمة الحب والغيرة والعطاء.
جاءوا من عدة محافظات، اختلفت ألوانهم ولهجاتهم وعاداتهم بل وحتى اديانهم، لكنهم توحدوا تحت راية الحق، وتفيأوا ظلال الحب للأرض بعيدا عن العبودية المذلة والرق.
احتشدوا كجداول صغيرة، ثم توحدوا ليشكلوا نهراً هادراً اجتث بسيل جريانه أصول الظالمين، وسقى بفيض عطاياه أرض الأولياء والصالحين.
ذهبوا بعد أن مزق فجرهم حجب الظلام، وتلألأت نجومهم في عتمة الليالي والأيام، فطهروا تراب الوطن من القاذورات، ولقنوا العدو درساً لن ينساه مدى الحياة، وضربوا أروع الأمثلة في الصمود وصلابة الإيمان والثبات، فنسجوا من سجل بطولاتهم عباءات ستر للمؤمنات، ولوّنوا بقاني دمائهم سفر البطولة والكرامات، وضمنوا تاريخ عراقهم الذي احبوه أروع الصفحات.
وها هم اليوم انوار تضيء سماء حياتنا، وإلى علياء المجد بهديها ترشدنا، ها هي أرواحهم تعيش بيننا، تلهمنا وتسدد خطونا، وتفتح أمام نواظرنا آفاق الارتقاء، وسبل العروج للعلياء.
تعلمنا كيف نصنع النصر في كل ميادين الصراع بين الحق والباطل لنهزم الأعداء.
تنطق بلسان الوعي والبصيرة أن على كل واحد منا أن يكون جنديا مرابطا على الثغور في البيت والمدرسة والشارع والجامعة والعمل.
توضح لنا ان العدو قد افلس في ساحة المواجهة وبانت هزيمته، وخرج من أرض الغيارى يجر اذيال عاره وخيبته، لكنه سيعود..!
نعم سيعود، لكن ليس بلباس الحرب؛ لأنه لا يجرؤ على مواجهة ابطالنا الأحرار، بل سيأتي بأوجه عدة وألبسة مزركشة ملونة تخطف الأبصار..!.
سيأتي في حملات التشكيك والفتن، سيأتي في مواقع التواصل المشوبة بالضلالة والاحن، سيأتي عازفا على اوتار الوجع العراقي؛ ليؤثر في النفوس فيسلبها سر ثباتها وعناصر قوتها.
سيأتي مع أبواق الطرب وفي حفلات الغناء، سيأتي مع دعوى التحرر وآخر صيحات الموضة والأزياء، سيأتي مع زلزلة العقيدة والانتماء، بشبه واباطيل ترتدي ثوب القداسة والنقاء.
سيأتي بألف لون ولون، ولن يكتشف أمره إلا الأذكياء الحذقون، الذين يعلمون أن الباطل لن يدخل الميدان بنفس الأسلوب والصورة، ولن يتجرع مرارة كأس الهزيمة أكثر من مرة، وان عليه كي يوطد أركانه ويثبت أسس بنيانه، أن يستخدم طرقا وأساليب أخرى، لن يكون كشفها سهلا ولا التصدي لها ميسورا.
إن دماء الشهداء تصرخ فينا أن نكون يقظين، وبحب الله تعالى متسلحين، وبصدق الولاء لآل البيت (عليهم السلام) متدرعين، وللعلم من مصدره طالبين، ومن كل أبواق الفتنة حذرين، ولصمام أماننا من الضياع متبعين، ولأمر مرجعيتنا المباركة طائعين.
وإن أقل وفاء لدماء الشهداء هو أن ندخل هؤلاء الشهداء الغيارى إلى بيوتنا، ونسرد سير عطائهم وبطولاتهم لأولادنا، ونحمل فكرهم في ارواحنا ونسلمه بكل امانة للقادم من اجيالنا.
لابد ان يفهم أبناؤنا أن رسالة الشهيد رسالة مقدسة ينبغي ان تحظى باهتمامنا، وتكون مصدر حركتنا وعملنا.
لابد ان نعلم ويعلم الجيل القادم ان رسالتنا اليوم تقتضي أن نصون ذكرى الفتوى والشهداء فنكمل مسيرتهم، ونقتفي اثرهم، ونتعلم منهم كيف نكون حراسا لديننا وعقيدتنا ومقدساتنا، ونرخص في سبيل الله تعالى الأرواح ونبذل المهج.
لابد ان نحمل رسالة الدم كما حملها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وعمته زينب (سلام الله عليها)، لنجوب بها الأقطار، وندخل مضمونها لكل مدينة وزقاق ودار.
لابد ان نحيي ذكرى الفتوى المباركة كما يليق بها، ونستذكر أمجاد ملبيها، لابد ان نعي ويعي العالم أجمع عظمة الأهداف التي استشهد خيرة رجالنا من أجلها، لابد ان نقدم هؤلاء الأحرار، كأروع قدوة لشبابنا وأفضل تذكار، فذكرهم وبقاؤهم في ضميرنا، ووعي أهدافهم في حياتنا هو بوابة الظفر والانتصار.