هو بابٌ من أبواب التاريخ، ونافذةٌ مشرقةٌ من نوافذ النور التي تسلّل عبرها شعاع المحبة الملكوتية إلى قلوب المحبين..
هو معبرٌ من معابر الولاية سلكته تلك الجارية الحرة، ممتطيةً وعياً وإيماناً ندر وجودهما في ذلك الزمن اللئيم، زمن انتهاك حرمة الرسول بقتل أبنائه وسبي بناته، تحت شعار الدين الذي فداه بحياته ومماته، وهو الذي أوصى أمّته بالتمسّك بمودة القربى، فغدوا لهم كارهين، وبسلوك الصراط المستقيم، فغدوا له متنكبين..!
طوعة.. وما أدراك من طوعة..!
هي مملوكة للأشعث بن قيس، أعتقها حبها لآل محمد..
بلى، فهي لم تغدُ حرةً؛ لأن الأشعث المعادي لعليّ (عليه السلام) وأولاده، والمشارك لمصارعهم بنفسه وبأيدي أولاده قد أعتقها..
وهي لم تأنس بهواء الحرية؛ لأنها تزوجت من أسيد بن مالك، فانتقلت من عبودية المعادي إلى عبودية معادٍ من نوعٍ آخر، قوامها كره الحسين ومناصرة أعدائه، بعد إذ كان زوجها من مريدي عبيد الله بن زياد، رجل يزيد الأول، ويده اليمنى الشلّاء، التي سلّطها على رقاب الأحرار والأوفياء، من شيعة الحسين (عليه السلام).
بل إن انعتاق طوعة كان حريةً ذات ألقٍ مختلف، حرية حقيقية، هي انطلاق الروح من قيد الجسد، وانفلات الضمير من سلاسل الهوى، وهو ما عجز عنه معظم الأحرار، ولا يزالون!
طوعة، كانت امرأة صابرة، ذات قلبٍ من حديد، ولكن يدها كانت نازفةً مقطوعة الوريد، فقد ابتلاها الله بزوجٍ كأسيد، سامها الخسف والذلّ والهوان لحبها لآل علي، ولكن بلاءها الأعظم لم يكن ذاك، بل كان في ولدها بلال الماجن السكّير، الذي قلب دنياها جحيماً وسماءها سديما، حتى ختم موبقاته بتلك الفتنة النكراء التي أودى من خلالها بسفير الحسين وصفيّه، مسلم بن عقيل بن أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه).
ولكن طوعة لم تستسلم لقدرها، ورغم أنها كانت محاطةً بأراذل القوم، وعلى رأسهم ولدها العربيد، إلا أنها حافظت على نقاء قلبها وصفاء عقيدتها، ووقفت ذاك الموقف الخالد الذي لم يقفه من أهل الكوفة أحد، في ذلك اليوم المشؤوم الأسود.
والتاريخ يشهد، والأقلام تدوّن، أن امرأةً مملوكةً مجهولة القدر مغمورة النسب، ليست من شريفات قريش ولا من أميرات العرب، أجارت ليث بني هاشمٍ في صحراء الكوفة الخالية من الرجال، وأنها إذ وقفت على باب دارها ترصد عودة ولدها الضالّ كما في كل ليلة، وتستغفر الله له عما اقترفت يداه، ولو كُشف لها الغطاء لارتعدت فرائصها لهول ما ينتظرها وينتظره من مكرمةٍ ومن بلاء، وما درت أنها كانت لنفسها مستغفرة، وأنها ما وقفت إلا لتكون للنساء مفخرة، فلسان حالها الذي كان ينطق بحب العترة الطاهرة، ونبض فؤادها الذي كان يتوالى أسفاً لسوء ما جنته يدا ولدها حتى ذلك الحين من شرورٍ باطنةٍ وظاهرة، كل ذلك كان شفيعاً لها ليقف مسلمٌ على بابها ويسألها شربة ماء، والأبواب أمامه كثيرة متكاثرة، قليلةٌ متصاغرة، إذ ليس فيها بابٌ مفتوحٌ قد تصاعدت من ثناياه عبراتٌ قاهرة، ولا نورٌ متّقدٌ تتوضّأ بشعاعه وترتقي للسماء دعواتٌ زاخرة..
وأجابت طوعة غريب الدار، فسقته من إبريقها ما روى غليله إلى الأنصار، ولما أتمّت السقيا، رمقته بعينٍ عفيفةٍ وقلبٍ ذي اعتبار؛
ترى، هل لمحت في ثنايا ظلّه أطياف ذي الفقار..؟!
وهل اهتزّ فؤادها لوقع مناجاة إمام المتقين في عمق الأسحار؟!
ربما.. ولكن ما هو معلوم، أنها رغم ذلك أشارت إليه بالانصراف إلى أهله، بعدما ارتوى بشربة الماء الأثيرة، إذ هتفت بنبرةٍ بصيرة:
"لا أحلّ لك الجلوس على بابي!".
كذا قالت طوعة، وكذا هبّ ليث الهاشميين من جلوسه على عتبة الدار بسرعة، وقد أيقن أن المرأة عفيفةٌ شريفة، وأنها موضع ثقة في تلك الغربة العنيفة؛ لقد أتاه قولها ليعلن له أنه قد أحسن اختيار باب تلك الدار، فسألها أن تؤويه حتى الشروق، عسى أن يجعل الله له بعد ذلك فرجاً ومخرجاً، فيجازيها على حسن ضيافتها وإيوائها بما يليق بجوده وجود آبائه..
وعلمت طوعة أنه مسلم، وأنه لا أهل له في المصر ولا عشيرة، بل هو غريبٌ بين أهل الكوفة، تماماً كغربة عمه في تلك المدينة الأسيرة، فغدت له جاريةً فطرسية الذنب والشفاعة، وأفردت له في دارها غرفةً تقيه إبليس وأتباعه، وما علمت أن إبليس قد بثّ في دارها وسواساً خناساً من أشياعه.. إذ لم يكد ولدها الخبيث يعود إلى الدار ويلاحظ وجود الضيف الكريم الذي نمّ عنه ألق شعاعه، حتى هرع إلى ابن زيادٍ ليشي بضيفه وينال جائزة الزقوم من صواعه، وما علم أنه خسر الدنيا والآخرة، فقد أغضب ربه وأمه، فخالف بالفعل الصريح الأمر الموسوم في الآية الكريمة: "أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير".
وخرج مسلمٌ إلى القوم لما سمع ضجيجهم؛ لكي لا يهتك للدار حرمة، فهي دار طوعة، من آوته ووعدها أن يكافئها، فلا يجدر به إذن، أن يسيء إلى من أحسنت إليه، وهو التقي النقي العالم، فقيه بني عقيلٍ وهاشم، تلميذ عمه حيدر، وابني عمه شبيرٍ وشبّر، خير من وطئ الثرى من الجِنّة والبشر..!
وأسفت طوعة أيّما أسف، أن يكون ولدها وابن بطنها قد وشى بضيفها وسيدها، من غدت دارها بفضله منارةً مكرّمة، بعد إذ كانت في ظلّ زوجها وولدها عفنةً مظلمة، ولم تدرِ ماذا تصنع، فلحقت بمسلمٍ إلى دار الإمارة، بعدما صال صولته وكاد له الأعداء كيدهم حتى أخذوه أسيراً بحيلتهم القذرة، وشاء لها المولى (عزّ وجلّ) أن تكون له ساقيةً مرةً ثانية، فلما طلب الماء أتته به في تلك الآنية، ولكنه كان جريحاً فسقطت ثناياه في القدح وامتلأ دما، فلم يشرب.. ومضى في سبيل الحق والشهادة ظمآناً كإمامه الظمآن، ليشاركه كربلاءه قبل أن يؤون الأوان، ويكون أول الشهداء بين يدي سيد الشهداء.
وقليلٌ من يعلم أن التاريخ كتب أيضاً، أن طوعة مثلت أمام ابن زيادٍ مكبّلةً بأغلاله، مرفوعة الهامة تردّ على سؤاله، وأنها وقفت موقف الحرة الكريمة، وأنها قرّعته وأنّبته بكلماتها العظيمة، فهو بعدما هدم دارها التي تشرّفت بتلك الضيافة الكريمة، وراح يستنطقها حول سبب إيوائها لمسلم، أجابته بكل شجاعة:
- وكيف لا أؤوي ابن عم رسول الله (ص) وقد جعلهم الله أوتاد الأرض؟
فقال لها الطاغية مجترئاً على الله ورسوله وأوليائه:
- إن هؤلاء خوارج..!
فردت بشجاعةٍ أكبر:
- بل إن هؤلاء أئمة الدين، وإن الخارجيّ هو أنت وأبوك!...
لله درّ الكلمة الحرة حين تخرج من موضعها فتحلّق في سماء الإنسانية، لتأخذ موقعاً يتسامى على مواقع الكلمات، ولله درّ امرأة نسيها التاريخ وتناساها، وكانت في ثنايا أحقابه لا تزيد على ذرةٍ من فتات، وضاع قدرها بين الآخرة والدنيا فلم تحصل من أيهما على أي التفات، ولكنها بعملها حازت رضا الخالق، فغدا ذكرها يطبق المغارب والمشارق..
لقد حبسها ابن زيادٍ جزاء كلمتها، فلم تأبه، ولما أطلقها بعد توسّطٍ من بعض أتباعه، لم تألُ جهداً في مواصلة الجهاد بالكلمة، حتى دسّ لها السمّ في طعامها، فالتحقت بأحبتها ملتحفةً رداء العظمة، وقد برّ مسلمٌ بوعده معها، فجزاها بمعروفها معه خير جزاء، إذ غدت شهيدةً في ركاب شهيدات كربلاء، وقدوةً بين النساء، وغدا بابها الموسوم بجلسة العبد الصالح الغريب، وعفة امرأةٍ صانت نفسها حتى استحقت أن يطلب منها المأوى ذاك الصدّيق النجيب، ويعدها بحسن العاقبة والمآل، فارتقت إلى ما زهد فيه أشاوس الرجال.. وإذا باب طوعة هو بابٌ من أبواب السؤال، تقرعه الأكفّ الناصعة، وتسأل الله بباب الحوائج الذي نزل به وبها، وعند الكريم يُجاب الدعاء، وعند طوعة تنكّس الطرف حرائر النساء.