عاشوراء هذه النهضة التي لطالما تجدد إحياء ذكراها في كل سنة؛ فهي ملحمة الخلود لمن شهدها، ولمن أستلهم وسيستلهم منها، وواحدة من الدروس التي يمكن أن نتعلمها من هذه الملحمة الملهمة هي ملامح الصراع الدائم بين أهل البصائر وأهل العمى.
تعالى يقول: {...فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}(الأنعام:١٠٤)- كما يبدوا- إن البصيرة تعطي للإنسان رؤية واضحة لمعرفة نفسه ورسالته وغاية وجوده، فيسهل عليه معرفة ما له وما عليه وما يراد منه، اما العمى فقد عبرة الآية (فَعَلَيْهَا)، اي وكأنه إذ اختار العمى فإنه سيأتي بحجاب ويضعه على عين قلبه فلا يجعلها تبصر شيء من الحق بعد ذلك ابداً.
من أثار البصيرة على أهلها
إن قيمة البصيرة تكمن بأن أهلها يرون كل شيء وفق ميزانه الالهي السماوي، لا الأرضي الداني، هم يرون حقيقة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:٢٤٩)، فالناصر هو الله تعالى.
ويرون أن البقاء مع الحق نجاة بكل الأحوال، فهذه آيات الله تبصرنا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الزمر:٣٦)، بلى فهو المسدد هو الولي الكافي المؤيّد؛ فهم لا يرون قلة عدد الملتحقين بجبهة الحق ضعفًا في جبهتهم لذا لا تنكسر همتهم، ولا كثرة عدد جيوش أهل الباطل تأييدًا لذا لا تتراجع اقدامهم بل يزيد ذلك من إقدامُهم.
هم يدركون إن الدنيا جبهتين: ظلام ونور، وإن الأصل هو النور وإن كان أصحابه قلة، فالشمعة المضيئة في الغرفة الظلماء تكسبها الضياء، وتوجد لمن فيها وضوح في رؤية ما فيها من أشياء، ولكن هيهات هيهات أن يحجب الظلام الضياء!
وهم بها يعلمون إن من لم يُعطى النور من الله تعالى؛ ذاته ستكون مُظلمة، فتعالى قال لهم:{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}(النور:٤٠)، وقال:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء }(النور:٣٥)، بالنتيجة لن تكون لغيرها مصدر ضياء.
بينما من له نور من ربه فهو سيكون ممن يرى الحقائق كما هي، ويكون مصدر نورانية لغيره، وهذه الحقيقة يؤكدها قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(الأنعام: ١٢٢)، يعني هناك من هو يعيش ويمشي بين الناس لكنه بلا نور، بلا بصيرة، اعمى القلب، وقد يكون منتكس البصيرة، فيرى الظلمة ضياء، والباطل حق.
شاهد ومشهد كربلائي
ولإن الإمام الحسين (ع) مصباح هداية لم يَكفْ عن دعوة القوم حتى في ساحة المعركة، كان يقترب منهم ليبين ويوضح، ليبث من نوره في قلوب اولئك ممن غُرر بهم، لعل سحابة العمى تنجلي عن بعضهم ليبصروا مواضع اقدامهم أين هي؟ ولأي مصير شقي ستأخذهم؟
وأهل البصائر الذين التحقوا بسيد الشهداء(ع) كانوا ايضًا درجات، كما ورد " لما رأى الحسين(ع) ذلك منهم ــ أي من اصحابه العزم و الصمود ــ قال لهم: "إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم و انظروا إلى منازلكم. فكشف لهم الغطاء ـ بإذن الله ـ و رأوا منازلهم و حورهم و قصورهم. فقال لهم الحسين(ع): يا قوم إني غداً أقتل و تقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد. فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، و شرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون في درجتك يا بن رسول الله؟ فقال: جزاكم الله خيراً".(١)، فهم كانوا من أهل البصائر لكن الاستقامة في يوم عاشوراء كان يتطلب أن يفتح لهم إمامهم الحسين(ع)نافذة على الغيب ليطلعهم على مقامهم، وليريهم ما سينالونه بالثبات معه وفي جبهة الحق.
وبالمقابل هناك من لم يكن محتاجًا لذلك، لأنه كان "نافذ البصيرة" كما وصفه إمامنا الصادق(ع)، فأبي الفضل(ع) كان يملك أعلى درجات البصيرة التي لم يحتاج بوجودها الى ما يُثَبتُه، لأنه كان يحمل ذات قد ذابت بسيدها، فصارت ذات كلها نور، ترى ما لا يراه الاخرون؛ فكان يرى ما يراه له إمامه، ويعمل ما يريده منه مولاه وسيده الحسين(ع).
ومن هنا نعرف كم للبصيرة من دور على مصير الإنسان الأبدي، فهي تكسبه الثبات فيما يعتقد عندما تشتد الاختبارات والفتن، وتهبه سكينة نفسية عندما القلب يمتحن.
______
(١) مقتل الإمام الحسين (عليه السَّلام).
فاطمة الركابي
وبينما كان حكام الجور منغمسين في ملذات الطغيان، ونشوة التنكيل بأصحاب المشروع المحمدي الاصيل، كان إختيار مولانا(السجاد ) عليه السلام لوسيلة البكاء الهادف والمؤثر، بأن جعلها سلوكاً عبادياً ، يصفع وجه الدولة الغاشمة، بلا مواجهة مسلحة دموية ، وبضمان التزام الجماهير المؤمنة لها ، دون تبعات وملاحقات .. فلا بد لمضامين كربلاء أن تستمر، وتحيى وتُستحضر في ضمير الأمة و وجدانها..
فلما رأى الناسُ (الإمامَ) عليه السلام يذرف الدموع ليل نهار، لا يفتأ يذكر حسيناً المظلوم الذبيح العطشان ، حتى بدأت تنازعهم ضمائرهم بإدراك وبلا إدراك، بوابل التساؤلات :
لماذا البكاء والحزن الدائمين؟ ما بالُ إبن رسول الله يبكي؟ على منْ يبكي الإمام عليه السلام؟
وهنا كان البيان الرسالي الدقيق والمؤثر، منه (عليه السلام) مضفياً عليه قدسيةً مرتبطة بالذاكرة القرآنية قائلاً:
فقال: لا تلوموني : فإن يعقوب عليه السلام فقد سبطا من ولده، فبكى، حتى ابيضت عيناه من الحزن، ولم يعلم أنه مات.. وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة! فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا؟!