ذات مرةٍ، اقترب أحد الوجهاء منه وطلب نظم أبيات من الشعر في رثاء أبيه، يؤرخ فيها عام وفاته، لتنقش على صخرة في مقبرة (مشهد الشمس) في مدينة الحلة الفيحاء، وبذل له أجراً معتداً به من المال – أربعين ليرة عثمانية، بتوسط أحد أصدقائه، فامتنع لعزة نفسه... رغم ضيق ذات اليد، وضعف حاله، لكنه أشمٌ غيورٌ صاحبُ مروءةٍ، ومن مروءته، ترفعه عن اكتساب المال بشعره الذي خضع لسلطانه أمراء الأدب في عصره.
هكذا أخبرنا (صاحب البابليات - الثقة الأمين) عن بائع (الكيزان) والجِرار والأواني الخزفية، أديب زمانه وشاعر أهل البيت (عليهم السلام) الشيخ صالح الكواز الحلي.
وحينما يقف المرء مسترسلاً، ذكر أمجاد صفوةٍ من شواخص الابداع والعطاء، وتاريخ جيل مضيء، ترك بصماته واضحة جلية على صفحات الأيام، مستغرقاً في استحضار ما يبعث على الاعتداد، بالانتماء الى تلك الدلالات الرمزية، ويقف وقوف الأوائل على الأطلال.
لم يخطر بباله، وهو يرى حيرة المعجبين بهذا النتاج الثر، إنه سيكون من المتحيّرين في تحديد الموضع الذي يُعمل فيه فكره ويطلق ذائقته، وأي مفردة يقدمها على من سواها؟
(الأدب الحلي) مفردة عميقة الغور وبعيدة المدى، يتفرع منها العشرات والعشرات من الموضوعات المختلفة الطرح، تقترب كثيرا من مفردة (الفقه الحلي) وما تعنيه من منظومة معرفية رصينة ومتجددة.
فالقرون الثلاثة المنصرمة، قد شهدت تقدم الأدب الحلي على من سواه من المدارس الأدبية الأخرى، فضلًا عن تخصصه بموضوعات رفيعة الشأن، عالية المضامين في واحة المودة لذوي القربى (صلوات الله عليهم) سيما في (الأدب الولائي) عمومًا، و(أدب الطف) على نحو الخصوص.
صالح الكواز (رحمة الله عليه)، أحد الشواخص الكبيرة في تلك الواحة، وملحمة إثراء ادبي قلّ نظيرها، بل كان ايماءة دقيقة تحيطها (كارزم) فريدة، تدل المقتفين آثار الابداع الولائي أن: من ههنا الطريق الى واحة المودة.
«أطول الشعراء باعاً في الشعر، وأثقبهم فكراً في انتقاء لئالئ النظم والنثر، وخطيب مجمعة الأدباء والمشار إليه بالتفضيل على سائر الشعراء، فريد الدهر وواحد العصر، الذي سجدت لعظيم بلاغته جباه أقلامه، واعترفت بفصاحته فضلاء عصره وأيامه، وفاق بترصيع نظامه وتطريز كلامه أرباب الأدب من ذوي الرتب، ومن رأيه في النظم على كلّ رأي أديب راجح، الشيخ صالح الحلي».
هذا ما وصفه به سيد شعراء عصره السيد حيدر الحلي (طيب الله ثراه). فتأمل!
لغة الإشارة، لغة يفهمها من كان أهلاً لتلقيها، ويفهمُ أن الإشارة في (واحة المودة) عبارة وعبارة وعبارة، قد يسمّيها أصحاب البديع (استعارة)، و(مجازاً)، و(اقتباساً)، وباجتماع هذه الاشارات، تتضح ملامح الصورة الإبداعية التي يروم إظهارها للجمهور.
فلنمعن النظر في هذه الأبيات التي تشكل مشاهد قرآنية، قد أفلح ناظمها في تأطيرها بإطار أدبي عالي المضامين:
فَليَبكِ طَالُوتُ حزناً للبقية من ... قد نال داوود فيهِ أعظم الغلبِ
أَضحَى وكانت له الأملاك حاملةٌ ... مقيداً فوق مهزول بلا قتبِ
يرنوا إلى النَّاشِرَاتِ الدَّمع طاوية ... أضلاعَهُنَّ على جَمرٍ من النُّوَبِ
والعَادِيَاتِ مِن الفَسطَاطِ ضَابِحَة ... فالمُورِيَاتِ زنادَ الحزنِ باللهبِ
والذَّارِيَاتِ تُراباً فوقَ رؤوسِها ... حزناً لكل صريع بالعَرى تربِ
فقامات الشهادة بكربلاء من أهل البيت (عليهم السلام)، والأنصار، بلغوا مرحلة الفناء في جنب الله (عز وجل)، وبلغوا المرتبة العظمى من (حبّ الله) و(حبّ الكلمة الطيبة).
ويضجّ (الكواز) ضجيج مكلومٍ فاقد، يستنهض (ولي الله)، مختصراً غور الزمن وبُعد المكان؛ لِيكون على مقربة من (الوجع الإلهي) بأرض نينوى، فينظر بعين البصيرة والبصر بأي حال أصبحت (سكينة الله) التي تحقق بها (نص آل داوود)؟
فالتمظهرات القرآنية التي استعارها (أديب العراق) مع المزاوجة الفنية الدقيقة، تعطي انطباعاً، بأن (الشيخ الكواز) على علم ودراية بعلوم القرآن الكريم ولطائفه ومعارفه، وهو انطباعٌ لو أضفته الى الإحاطة اللغوية والبلاغية التي شهد بها زعماء المدارس الأدبية في العراق: كالسيد حيدر الحلي، وشاعر بغداد عبد الغفار الأخرس، وشاعر الموصل عبد الباقي العمري، لعلمتَ أنه من أوحديي زمانه ونوادره.
لقد امتلك (بائعُ الكيزان) مخيلةً كربلائيةً فريدة، أوقد فيها ومضات (العاديات)، و(المرسلات)، و(الناشرات)، و(الموريات) بوقع الحدث المروع بأرض الطفوف، ذلك الوقع الذي منح (الشاعر) حرية (استحضار الجرح النازف لأهل الذكر والوحي والتنزيل).
والمشهد القرآني يتكرر في قصائد عصماء أخرى للمرحوم الكواز، لم تزل ترنيمةً خطابيةً منبريةً متميزة الى يومنا هذا.
ولو أردنا استعراض الاستعارات القرآنية في أشعار الكواز الحلي (رحمة الله عليه)، لطال بنا المقام، وليس ذلك بغريب على مدرسة الأدب الحسيني، فأهل البيت (عليهم السلام) هم عدل القرآن العظيم، وسيرتهم العطرة ترجمة عملية للمنهج القرآني، وهم الأدلاء على منظومة المعارف الإلهية المتكاملة، ومنها انبثق (أدب الولاء الصادق) الذي ارتحل (صالح الكواز) في واحدة من آلاف القوافل الولائية لشعراء (علي وبني علي) (عليهم السلام).