رقية طفلة صغيرة هي الأصغر، اذ سبقها ولدان محمد وعلي وبنت اسمها فاطمة.
رقية هي المدلّلة عند أبيها، يصحبها إلى محل عمله في دكانه الخاص الذي كان يعمل به. كانت كثيراً ما تشاكس الزبائن بخفة دمها، وقد أحب الكثيرون دلالها ومشاكستها، بل لعل البعض أخذ يشتاق لتلك اللمحات الجميلة التي تصدر منها، فيأتي الى دكان أبيها ليرى رقية ويمازحها ويخرج.
بل اصبحت واسطة جذب للزبائن وسط ضحكات أبيها وتقبيله لها .
هكذا كانت حياتها جميلة حتى في البيت، تكون الى جانب أبيها، وتحاول أن تثير والدتها بأن تعتنقه وتقول: هو لي وحدي..! وسط ضحكات أمها واخوتها، وعند سماعها الأذان تسرع لترتدي احرامها الجميل الصغير، وتهيئ سجادة الصلاة لها ولأبيها.
كثيراً ما حاول الآخرون أخذ مكانها، ولكنها تغلبهم بخفة دمها وشقاوتها وعندما يقولون لها اتعبتِ اباك، تقول لهم: لا عليكم انا عزيزته أنا حبيبته دعوني..
وفي يوم ربيعي جميل ومع نسمات الصباح الجميلة وهي مع ابيها في محل عمله دخل احد الزبائن الذي اعتاد على شقاوة رقية داعبها ثم قال لها: احضرتُ لكِ هدية جميلة.
فقالت: هل هي أجمل من أبي..؟ لا اعتقد هناك هدية اجمل منه.
ضحكا بقهقهة.. وقال لها: نعم هو اجمل هدية .
ولكن تعالي معي الى السيارة في الجانب الآخر من الشارع، وسأريك مفاجأة .
ذهبت معه بعد أن امسكت بيده بقوة خوف السيارات المارة، وحين وصلت الى سيارة ذلك الرجل ودخلت بها لترى المفاجأة، واذا بصوت انفجار يهز المكان وساد الظلام وهي ترتجف من الخوف والهلع... وبعد دقائق خرجت مسرعة نحو محل ابيها الذي اصبح ركاماً .
فعثرت بشيء، دققت النظر، واذا برأس ابيها يشخب منه الدم..!
جلست وضعته في حجرها، انحنت عليه تلثمه وتصرخ عالياً: بابا.. بابا.. بابا، حتى اغمي عليها.
هرع إليها من كان قريباً من المكان ليحملوها وهي بلا حراك.
اوصلوها الى المستشفى وكان قلبها ينبض .
اسعفوها، فتحت عينيها، ودارت بهما وسط الحاضرين وهي تتمتم: بابا... بابا...
وسط دموع الحاضرين وبهذه الاثناء حضرت امها لتعانقها وهي تبكي: حبيبتي حبيبتي... اين ابوك؟ ووسط تلك الدموع وهي تردد: بابا... لم تتمالك الطفلة مشاعرها وتنادي: أين أبي؟ أين أبي؟
وهي مذهولة مدهوشة لا تريد أن تصدق أن أباها رحل عنها وجسده تقطع اوصالا فأخذت تنادي: اريد ابي قبل قليل كان معي، أين أبي؟ اريد ابي، وسط دموع الحاضرين وآهاتهم، قالت لها امها: بنيتي ان اباك مات ورحل عنا..!
قالت رقية: لا لا لا، قبل قليل كان معي، بكى كل من حضر عندها، وعلا الصراخ والبكاء في القاعة، جاء الطبيب والممرضون فشاهدوا ما يجري فاختنقوا بعبرتهم ونشيجهم، كتب لها الطبيب وصفة من العلاج المهدّئ وأُخرجت من المستشفى ورجعت الى الدار ولكنها كانت ترفض أخذ العلاج المهدّئ
وتقول: أين أبي؟ لقد كان وعدني بهدية أين هو؟ اين هو ابي؟
أبي، أبي، أين أنت؟
أخذت تركض الى غرفته علها تجده، أخذت تشم رائحته في ارجاء الغرفة، هذه ملابسه، هذا قميصه، وهذه حاجياته، وهي تدور مذهولة وتكلم اباها.
واذا بجنازة ابيها جاؤوا بها استعداداً للتوديع الأخير، ليدفن في مثواه الاخير، شمت ريح والدها ركضت وهي تنادي: جاء ابي جاء ابي، تسمّرت قدماها وهي ترى اباها وسط التابوت وقد علا العويل والصراخ في أرجاء الدار، رمت بنفسها على الجنازة وهي تنادي: أبي أبي.. الى أين أنت ذاهب؟
أتتركني وانا مدللتك؟
بابا من يلاعبني ويضاحكني؟
وصارت تنادي: بابا بابا... ثم هدأت، والصراخ والعويل من اهلها والحاضرين، كلهم يبكون لفقد عزيزهم ويبكون حال هذه الطفلة رقية، ولكنهم ذهلوا؛ لأنها سكنت، حملوها واذا بها قد التحقت بأبيها وفارقت روحها الطاهرة هذه الدنيا، لترفرف روحها مع أبيها الشهيد، لتكون قصة رقية الحاضرة بصمة تشابه ما جرى على السيدة رقية الماضي، فالقتلة هم نفس القتلة، والقلوب المتحجرة التي لا تعرف للرحمة معنى ولا للإنسانية معنى ولتكون مواساة رقية الحاضرة للسيدة الطاهرة رقية بنت الامام الحسين (عليه السلام)، لتشير الى مظلومية اهل البيت واتباعهم في الماضي والحاضر.