واحدة من أهم أساليب تربية النفس وتقويم سلوكها، لا يكون بالتركيز على التخلي عن الصفات المذمومة فيها، بقدر ما يكون بالتركيز على التحلي بنقيضها، وكتاب الله لم يخلُ من هذا الأسلوب، فحين نريد البحث عن البخل، نجد أنه يعالج ظهور الصفات الذميمة بوجوب التحلي بالصفات الأصيلة في النفس الإنسانية حتى تُصبح ملكة.
لماذا يبخل الإنسان؟
قال تعالى: «...أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا» [الأحزاب: 19]، تصرح هذه الآية الكريمة علاقة البخل بالإيمان، بل وتعبير الآية بمفردة (أشحة) هي أعلى درجات البخل، وهذا دليل على أن البخيل هنا هو من أهل الإيمان السطحي، غير المستقر فيه بعد، وهذا يوصلنا الى أن انتفاء البخل إنما هو كاشف عن الوصول للإيمان المُستقر.
إذ قيل: [إن كل ما يأتي بعد الخطاب الالهي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ...»، إنما هو شرط من شروط بلوغ مرتبة من حقيقة الإيمان](١)، وبما أن الإيمان هو اعتقاد وتصديق وعمل، نجد أن في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ... وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» [البقرة: 267]، وفي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» [البقرة :254]، تبيان لمشكلة صاحب النفس البخيلة (الشحيحة):
أولاً: مشكلة عقائدية على المستوى اليقيني، فصاحبها لم يرسخ في نفسه الاعتقاد بأنه يؤمن بربّ (غني حميد)، فالنفس تتصف بالبخل متى ما اعتقدت أن ما عندها من مصدر ليس بغني، أي أنه إن أعطاها اليوم، قد لا يعطيها غداً؛ فتخاف الإفلاس إن أنفقت! لذا الإيمان بربّ غنيّ حميد يثمر الأمان والاطمئنان النفسي بأن من ترتبط به، ليس فقط خزائنه لا تنفد، بل ويزيد بعطائه للنفس الباذلة المنفقة في سبيله.
ثانياً: مشكلة عقائدية على مستوى الامتثال لأمر خالقه، فالإيمان درجة أعلى من الاسلام، ومن علامات المسلم تحقق التسليم لأوامر ربه، التي هي بالأصل لنفعه وتكامله، وهي بالنتيجة لم تتحقق به بعد!
ثالثًا: مشكلة عقائدية على مستوى التصديق بوجود معاد، أي كون تحصيل المكاسب سواء كان نعيم الجنان، أو رضوان الرحمن، لا يحصل إلا بالبذل والإنفاق بما استخلف عليه في الحياة الدنيا.
خطورة البخل على مصير الإنسان:
قال تعالى: «...أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» [الأحزاب :19]، نجد هنا كيف أن صفة البخل توصل الإنسان لسوء العاقبة، اي يعود لربه بلا زاد يُنجيه من الخلود بالعذاب.
فالإيمان الراسخ لا ينفي صفة البخل فقط، بل ويوجب ظهور أعلى مصاديق الإنفاق وهو الإيثار، قال تعالى: «... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [الحشر: 9]، أي يصل الى أعلى مدارج الكمال، وهي مكارم الأخلاق في الدنيا والفلاح في الآخرة.
آية وتنبيه للحذر من البخل:
قال تعالى: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» [التغابن:١٥]، فالبخيل هو مفتتن بتقديم الإنفاق على أولاده على الانفاق في سبيل الله تعالى، بمعنى أنه يفكر فقط بهم، ولا يخرج من ماله شيئا ليبذله لله تعالى؛ تقربًا وطاعة؛ والإنسان المؤمن المنتبه هو لا يُسرف ولا يَقتر بل يُعطي كل ذي حق حقه.
آية وخطوات وقائية:
قال تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [التغابن :1].
قد اتضح لنا أن البخل ليس مجرد صفة أو عادة سلبية، إنما وجودها يؤثر على المصير الأبدي للمتصف بها، والمؤمن الواعي هو الذي يتوقى من أي آفة أو بلاء ليحفظ سلامة نفسه؛ لذا هنا الآية تبيّن خطوات لحفظ النفس، وليكون مسير صاحبها إن عَمِل بها للفلاح أسلم وأسرع، وذلك عبر خطوات متسلسلة، إذ تبدأ بالتقوى التي كما ورد: «إنها سنخ الايمان»(٢)، أي استشعار وجود الله تعالى الغني الحميد، الرقيب الحافظ، فهذا يولد أولاً حصانة للنفس من أن تكون هذه الصفة حاكمة في وجود صاحبها، وثانياً تصبح أوامر الله تعالى بالإنفاق سواء بالمال او النفس مسموعة، ثم مطاعة، لتصبح صفة الإنفاق والبذل في سبيل الله حاصلة بل وملكة في النفس.
وختاماً: نفي البخل عن النفس، وتحقيق روح الإنفاق في صاحبها لا يشمل الجانب المادي (المال) فقط، بل يشمل الجانب المعرفي أيضًا، أي أن ينفق من علمه وما يعرفه وما قد تعلمه للجاهل به، الطالب له، ويشمل الجانب الأخلاقي كبذل العفو؛ كي يحافظ على طيب العلاقات الاجتماعية، كما قال تعالى: «وَيَسْئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو» [البقرة: 219]؛ فأبرز سمات المؤمنين أنهم يتحلّون بنفوس معطاءة أينما كانوا، وفي أي مكان حلّوا.
_______
(1) في رحاب الإيمان، السيد محمد تقي المدرسي، ص٩٥(بتصرف).
(2) تحف العقول، ص154.