بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
عن الإمام الصادق في تعريف الحكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ قال: ”الحكمة المعرفة، والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم.“
فهو يرشدنا إلى أن الحكمة هي المعرفة التي لها أثر على سلوكنا وضبط أفعالنا. حينئذ تكون هذه المعرفة مساوقة للحكمة
ما هي موارد الحكمة؟ وما هو الطريق إلى الحكمة في النصوص الواردة عن أهل البيت ؟ ذكرت هذه الروايات موردين للحكمة:
المورد الأول: العلاقة مع الله
وقد حددها الإمام أمير المؤمنين علي (ع) بعنصرين:
العنصر الأول: الخوف من الله
قال: ”رأس الحكمة مخافة الله“ انطلاقًا من القرآن الكريم ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
العنصر الثاني: عدم الاسترسال في الشهوات
الإنسان محتاج إلى أن يشبع شهواته، ولكن إذا استغرق في إشباع الشهوات، فقد الطريق إلى الحكمة. ورد عن الإمام علي : ”حد الحكمة الإعراض عن دار الفناء، والتوله بدار البقاء“ الإعراض عن دار الفناء يعني عدم الاسترسال في الشهوات. ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾
المورد الثاني: العلاقة مع المجتمع، مع الإنسان الآخر
كيف أكون حكيمًا في العلاقة مع البشر؟ في العلاقة مع المجتمع؟ هنا ورد عن الإمام علي : ”الحكمة أن لا تنازع من فوقك، ولا تستذل من دونك، ولا تتعاط ما ليس في قدرتك“
فعندما نكون موظفين في شركة، لنعرف حجمنا، لا ننازع من فوقنا ولا نستذل من دوننا، ولا نتعاط ما ليس في قدرتنا. او عندما نكون افرادًا في عشيرة، وفي مجتمع، لنعرف حجمنا وموقعنا، ولا يكن لساننا خلاف قلبنا، ولا فعلنا ولا قولنا خلاف فعلنا، ولا نتكلم بما لا نعلم. كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، وقال الإمام أمير المؤمنين علي : ”لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم“ وورد عنه أنه قال: ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“ الفرق بين الحكيم والأحمق أن الحكيم كثير الصمت، وافر العقل، لا يتكلم إلا في موضع يقتضي الكلام. وأما الأحمق فهو ثرثار، يكثر كلامه فيكثر خطؤه، فيكثر غلطه. ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“.
أما ما هو الطريق إلى الحكمة؟ الطريق إلى الحكمة يتقوّم بدعامتين
الدعامة الأولى: عدم الاستغراق في الشهوات ورد عن الإمام علي : ”لا تجتمع الشهوة والحكمة“ الإنسان الذي دائمًا يفكر في إشباع شهوته، لا يمكنه أن يكون حكيمًا، متأنيًا، ضابطاً متقنًا لتصرفاته.و كلما قويت الحكمة ضعفت الشهوة.
الدعامة الثانية: الإخلاص
كلما أخلصت لطريقك كنت أكثر حكمة. ورد عن الإمام علي : ”من أخلص العبادة لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه“ هذا ما يتعلق بالمنطلق الأول، الحكمة في التراث الروائي الوارد عن أهل بيت النبي محمد(ص).
فدور النبي (ص) تعليم الحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ لكن هل يعقل أن يعلم النبي(ص) الحكمة وهو ليس حكيما؟ لو لم يكن الرسول حكيمًا في حد ذاته، ولو لم يمتلك الرسول الكفاءة الحكيمة في حد ذاته، لما كان مؤهلًا لأن يكون منبعًا للحكمة، ومعلمًا للحكمة. فالحكيم هو القادر على أن يعلم المجتمع الحكمة تعليما عمليًا.
ما هي الحكمة التي تجلت في شخصية النبي ؟ هنا عدة تجليات نذكرها إجمالًا
التجلي الأول: بناء القاعدة
أي مشروع ينطلق فيه الإنسان يحتاج إلى قاعدة وجناح.
والقاعدة هي عبارة عن: أن تختار من هم أكثر فهمًا لأهدافك، وأكثر إخلاصًا إليك. عندما تختارهم هكذا فأنت تعتبر بنيت القاعدة، لذلك الرسول من حكمته: انطلق من أسرته، انطلق من عشيرته ; لأنهم أكثر الناس فهمًا لأهدافه، أكثر الناس إخلاصًا إليه. انطلق النبي من أسرته، ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ هذا من باب بناء القاعدة.
أبو طالب، حمزة بن عبد المطلب، جعفر الطيار، علي بن أبي طالب.
هذا التجلي الأول الذي تجلى في حكمة النبي.
التجلي الثاني: محو الطبقية
بما أن مشروع النبي مشروع تغييري نهضوي، مشروع لإحياء الأمم إلى يوم القيامة، كان أول بنود هذا المشروع: محو الطبقية. ”كلكم لآدم وآدم من تراب“ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ ماذا فعل النبي(ص) ؟
أول خطوة عملية: حرر مجموعة من العبيد وجعلهم قادة في المجتمع: عمار بن ياسر، بلال بن رباح، سلمان الفارسي، تحولوا من أرقاء أذلاء، إلى قادة بارعين وبارزين في المجتمع الإسلامي. لذلك الرسول قام بأعظم خطوة: ألا وهي محو الطبقية في سبيل بناء مشروعه النهضوي التغييري.
التجلي الثالث: اختيار الموقع المناسب للمشروع
لنجاح أي مشروع، لا بد من اختيار الزمن المناسب والمكان المناسب. الرسول كذلك مر بمرحلتين: مرحلة الدعوة، ومرحلة بناء الدولة. مرحلة الدعوة قضاها في مكة، 13 سنة هو في مكة. لكن عندما جاء وقت الانطلاق لبناء الدولة، والانطلاق لتحويل المشروع إلى مشروع عملي، انطلق إلى مكان آخر. انطلق إلى المدينة المنورة ; لأنها المكان المناسب، والموقع المناسب لمشروعه النهضوي التغييري. انطلق إلى المدينة المنورة في تجلي واضح لحكمته العملية ، وبنى أول مسجد كان منطلقًا للتغيير. ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا﴾
التجلي الرابع: أن النبي قام بنوعين من التربية:
تربية عامة لكل الجيل، وتربية خاصة لخصوص الكادر الذي يعتمد عليه في أعباء الرسالة. والقرآن يتحدث عن هذين النوعين من التربية
النوع الأول وهو التربية العامة يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
هذه تربية عامة قام بها النبي لكل المجتمع. لكن هناك تربية خاصة، حظي بها مجموعة خاصة ممن حوله، هيأهم ككادر يعتمد عليه في حمل أعباء الرسالة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
التجلي الخامس: الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف.
التجلي الذي ركزت عليه الآية القرآنية، هي في حد ذاتها حكمة، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ الجمع بين التزكية والتعليم حكمة. لو اقتصر على التعليم لم يكن حكمة. ولو اقتصر على التزكية لم يكن حكمة. الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف هو في حد ذاته يعتبر تجليًا واضحًا من تجليات الحكمة: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾
التجلي السادس: استيعاب المختلف.
دائمًا نحن متوترون إذا شخص يختلف معنا. دائمًا نتعامل معه بتوتر وبتشنج.
كيف نستوعب من يختلف معنا؟ استيعاب المختلف: رأس الحكمة العملية.
استيعاب المختلف: حكمة جسدها النبي . كيف تعامل النبي(ص) مع المنافقين؟
يعرف أنهم منافقون. استوعبهم، وكان يسمع لهم، ويصغي لكلامهم. حتى قال ابن أبي سلول: إن محمد أذن. نحن نقول له شيء يصدقنا، الله يقول له شيء يصدقه. هو مجرد أذن. ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ كان هذا مصداقًا لاستيعاب المختلف.
مثلًا، النبي لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام أمروا صبيانهم وسفهاءهم يلقفونه بالحجارة والأشواك وهو يتلقاها ساكتًا إلى أن استند إلى جدار بستان. رفع يديه إلى السماء، قال: ”اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون“ استيعاب المختلف.
النبي عندما فتح مكة صارت قريش وأهل مكة بين يديه قال: ”ما ترون أني فاعل بكم؟ بعدما شردوه وقاتلوه، وقتلوا خيرة أصحابه، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.“ العفو عند المقدرة علامة القوة وليس علامة الضعف. العفو عند المقدرة مظهر عظيم من مظاهر الحكمة قام به النبي محمد. .
وهذا الحسين بن علي(ع) يسير على حكمة رسول الله (ص)، كما أن رسول الله (ص) بنى كادراً اعتمد عليه في بناء الرسالة، الحسين (ع)، اختار صفوة من الأنصار اعتمد عليهم في بناء مشروعه وحركته الإصلاحية يوم كربلاء. ”إني لا أعلم أصحابًا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي“ كما أن النبي اختار الموقع المناسب للانطلاق في مشروعه المبارك، الحسين (ع)، أيضًا اختار الموقع المناسب للانطلاق في مشروعه المبارك. خرج من المدينة، خرج من الحجاز، خرج إلى منطقة أخرى ليقوم بتأجيج مشروعه الذي اختاره وعيّنه.
*** مقتبس من محاضرة للسيد منير الخباز _ بتصرف
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
عن الإمام الصادق في تعريف الحكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ قال: ”الحكمة المعرفة، والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم.“
فهو يرشدنا إلى أن الحكمة هي المعرفة التي لها أثر على سلوكنا وضبط أفعالنا. حينئذ تكون هذه المعرفة مساوقة للحكمة
ما هي موارد الحكمة؟ وما هو الطريق إلى الحكمة في النصوص الواردة عن أهل البيت ؟ ذكرت هذه الروايات موردين للحكمة:
المورد الأول: العلاقة مع الله
وقد حددها الإمام أمير المؤمنين علي (ع) بعنصرين:
العنصر الأول: الخوف من الله
قال: ”رأس الحكمة مخافة الله“ انطلاقًا من القرآن الكريم ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
العنصر الثاني: عدم الاسترسال في الشهوات
الإنسان محتاج إلى أن يشبع شهواته، ولكن إذا استغرق في إشباع الشهوات، فقد الطريق إلى الحكمة. ورد عن الإمام علي : ”حد الحكمة الإعراض عن دار الفناء، والتوله بدار البقاء“ الإعراض عن دار الفناء يعني عدم الاسترسال في الشهوات. ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾
المورد الثاني: العلاقة مع المجتمع، مع الإنسان الآخر
كيف أكون حكيمًا في العلاقة مع البشر؟ في العلاقة مع المجتمع؟ هنا ورد عن الإمام علي : ”الحكمة أن لا تنازع من فوقك، ولا تستذل من دونك، ولا تتعاط ما ليس في قدرتك“
فعندما نكون موظفين في شركة، لنعرف حجمنا، لا ننازع من فوقنا ولا نستذل من دوننا، ولا نتعاط ما ليس في قدرتنا. او عندما نكون افرادًا في عشيرة، وفي مجتمع، لنعرف حجمنا وموقعنا، ولا يكن لساننا خلاف قلبنا، ولا فعلنا ولا قولنا خلاف فعلنا، ولا نتكلم بما لا نعلم. كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، وقال الإمام أمير المؤمنين علي : ”لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم“ وورد عنه أنه قال: ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“ الفرق بين الحكيم والأحمق أن الحكيم كثير الصمت، وافر العقل، لا يتكلم إلا في موضع يقتضي الكلام. وأما الأحمق فهو ثرثار، يكثر كلامه فيكثر خطؤه، فيكثر غلطه. ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“.
أما ما هو الطريق إلى الحكمة؟ الطريق إلى الحكمة يتقوّم بدعامتين
الدعامة الأولى: عدم الاستغراق في الشهوات ورد عن الإمام علي : ”لا تجتمع الشهوة والحكمة“ الإنسان الذي دائمًا يفكر في إشباع شهوته، لا يمكنه أن يكون حكيمًا، متأنيًا، ضابطاً متقنًا لتصرفاته.و كلما قويت الحكمة ضعفت الشهوة.
الدعامة الثانية: الإخلاص
كلما أخلصت لطريقك كنت أكثر حكمة. ورد عن الإمام علي : ”من أخلص العبادة لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه“ هذا ما يتعلق بالمنطلق الأول، الحكمة في التراث الروائي الوارد عن أهل بيت النبي محمد(ص).
فدور النبي (ص) تعليم الحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ لكن هل يعقل أن يعلم النبي(ص) الحكمة وهو ليس حكيما؟ لو لم يكن الرسول حكيمًا في حد ذاته، ولو لم يمتلك الرسول الكفاءة الحكيمة في حد ذاته، لما كان مؤهلًا لأن يكون منبعًا للحكمة، ومعلمًا للحكمة. فالحكيم هو القادر على أن يعلم المجتمع الحكمة تعليما عمليًا.
ما هي الحكمة التي تجلت في شخصية النبي ؟ هنا عدة تجليات نذكرها إجمالًا
التجلي الأول: بناء القاعدة
أي مشروع ينطلق فيه الإنسان يحتاج إلى قاعدة وجناح.
والقاعدة هي عبارة عن: أن تختار من هم أكثر فهمًا لأهدافك، وأكثر إخلاصًا إليك. عندما تختارهم هكذا فأنت تعتبر بنيت القاعدة، لذلك الرسول من حكمته: انطلق من أسرته، انطلق من عشيرته ; لأنهم أكثر الناس فهمًا لأهدافه، أكثر الناس إخلاصًا إليه. انطلق النبي من أسرته، ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ هذا من باب بناء القاعدة.
أبو طالب، حمزة بن عبد المطلب، جعفر الطيار، علي بن أبي طالب.
هذا التجلي الأول الذي تجلى في حكمة النبي.
التجلي الثاني: محو الطبقية
بما أن مشروع النبي مشروع تغييري نهضوي، مشروع لإحياء الأمم إلى يوم القيامة، كان أول بنود هذا المشروع: محو الطبقية. ”كلكم لآدم وآدم من تراب“ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ ماذا فعل النبي(ص) ؟
أول خطوة عملية: حرر مجموعة من العبيد وجعلهم قادة في المجتمع: عمار بن ياسر، بلال بن رباح، سلمان الفارسي، تحولوا من أرقاء أذلاء، إلى قادة بارعين وبارزين في المجتمع الإسلامي. لذلك الرسول قام بأعظم خطوة: ألا وهي محو الطبقية في سبيل بناء مشروعه النهضوي التغييري.
التجلي الثالث: اختيار الموقع المناسب للمشروع
لنجاح أي مشروع، لا بد من اختيار الزمن المناسب والمكان المناسب. الرسول كذلك مر بمرحلتين: مرحلة الدعوة، ومرحلة بناء الدولة. مرحلة الدعوة قضاها في مكة، 13 سنة هو في مكة. لكن عندما جاء وقت الانطلاق لبناء الدولة، والانطلاق لتحويل المشروع إلى مشروع عملي، انطلق إلى مكان آخر. انطلق إلى المدينة المنورة ; لأنها المكان المناسب، والموقع المناسب لمشروعه النهضوي التغييري. انطلق إلى المدينة المنورة في تجلي واضح لحكمته العملية ، وبنى أول مسجد كان منطلقًا للتغيير. ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا﴾
التجلي الرابع: أن النبي قام بنوعين من التربية:
تربية عامة لكل الجيل، وتربية خاصة لخصوص الكادر الذي يعتمد عليه في أعباء الرسالة. والقرآن يتحدث عن هذين النوعين من التربية
النوع الأول وهو التربية العامة يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
هذه تربية عامة قام بها النبي لكل المجتمع. لكن هناك تربية خاصة، حظي بها مجموعة خاصة ممن حوله، هيأهم ككادر يعتمد عليه في حمل أعباء الرسالة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
التجلي الخامس: الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف.
التجلي الذي ركزت عليه الآية القرآنية، هي في حد ذاتها حكمة، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ الجمع بين التزكية والتعليم حكمة. لو اقتصر على التعليم لم يكن حكمة. ولو اقتصر على التزكية لم يكن حكمة. الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف هو في حد ذاته يعتبر تجليًا واضحًا من تجليات الحكمة: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾
التجلي السادس: استيعاب المختلف.
دائمًا نحن متوترون إذا شخص يختلف معنا. دائمًا نتعامل معه بتوتر وبتشنج.
كيف نستوعب من يختلف معنا؟ استيعاب المختلف: رأس الحكمة العملية.
استيعاب المختلف: حكمة جسدها النبي . كيف تعامل النبي(ص) مع المنافقين؟
يعرف أنهم منافقون. استوعبهم، وكان يسمع لهم، ويصغي لكلامهم. حتى قال ابن أبي سلول: إن محمد أذن. نحن نقول له شيء يصدقنا، الله يقول له شيء يصدقه. هو مجرد أذن. ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ كان هذا مصداقًا لاستيعاب المختلف.
مثلًا، النبي لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام أمروا صبيانهم وسفهاءهم يلقفونه بالحجارة والأشواك وهو يتلقاها ساكتًا إلى أن استند إلى جدار بستان. رفع يديه إلى السماء، قال: ”اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون“ استيعاب المختلف.
النبي عندما فتح مكة صارت قريش وأهل مكة بين يديه قال: ”ما ترون أني فاعل بكم؟ بعدما شردوه وقاتلوه، وقتلوا خيرة أصحابه، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.“ العفو عند المقدرة علامة القوة وليس علامة الضعف. العفو عند المقدرة مظهر عظيم من مظاهر الحكمة قام به النبي محمد. .
وهذا الحسين بن علي(ع) يسير على حكمة رسول الله (ص)، كما أن رسول الله (ص) بنى كادراً اعتمد عليه في بناء الرسالة، الحسين (ع)، اختار صفوة من الأنصار اعتمد عليهم في بناء مشروعه وحركته الإصلاحية يوم كربلاء. ”إني لا أعلم أصحابًا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي“ كما أن النبي اختار الموقع المناسب للانطلاق في مشروعه المبارك، الحسين (ع)، أيضًا اختار الموقع المناسب للانطلاق في مشروعه المبارك. خرج من المدينة، خرج من الحجاز، خرج إلى منطقة أخرى ليقوم بتأجيج مشروعه الذي اختاره وعيّنه.
*** مقتبس من محاضرة للسيد منير الخباز _ بتصرف
تعليق