إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هؤلاء بناتي/"على قيد الصبر " بشرى مهدي بديرة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هؤلاء بناتي/"على قيد الصبر " بشرى مهدي بديرة


    نحتاج في رحلتنا في هذه الدنيا إلى ما يعيننا على اجتياز هذا العالم نحو الضفة الأخرى، دروس نستلهمها من منبعها الوضاء، وإلا فما نحن إلا عابري سبيل.
    إنها الثالثة صباحاً، استيقظت فزعة يا إلهي ما الذي حصل؟! تلك الرموز أدركها جيداً !إنّ صدق حدسي فما هي إلا أضغاث أحزان .
    نعم، لقد ضاق صدري البارحة ثمة رسالة تحتاج إلى تأويل.
    دون أن أشعر خلدت إلى النوم ثانية لأرى في الحلم نوراً يأتيني من بعيد يشعّ كما بريق الفضة على وجه الماء، الخشوع ملأ المكان، السيدة تتجه نحوي، من تكون تلك السيدة الجليلة؟ - قلت في نفسي - وقد غطت وجهها فلا يبدو لي سوى قداسة تحيط بها، تكاد الأرض تهتز وتربو من خطاها، أكاد أشعر بأن الأرض خانها دورانها فتوقفَت لبرهة !
    وأن العوالم بكلها تهلل وتكبر، ثمة قشعريرة تسري في روحي فالكون كله يسير بشكل غير اعتيادي وما أحسبني في تلك اللحظة إلا جرم صغير ضئيل في هذا الكون !
    ارتعشت قلباً وروحاً من ذاك الموقف القدسي إذ السيدة تتجه نحوي، أحنيتُ رأسي قليلاً إجلالاً واحتراماً، ثم توقفَت لتقدم لي عباءة سوداء، مسحتْ على رأسي، واستدارت عائدة وغشاوة كانت قد غطت عينيّ .
    الهاتف يرنّ بصخب جاء الصوت وكأنه يهتز كما ارتداد الصدى، ماذا؟
    لعلّي أخطأت الفهم.
    أغلقت الهاتف.
    لقد استشهد أخي !
    حاولت أن استجمع قواي الخائرة إثر ذاك الخبر، صمتّ لبرهة.
    وفي لحظة أدركت كل شيء، ما المطلوب مولاتي؟
    الصبر، نعم الصبر، إني آنست صبراً لعلي آتٍ منه بقبس !
    هبيني يا سيدة الصبر قبساً من صبرك لأتحمل المصاب، لهف قلبي عليكِ كيف وقفتِ ذاك الموقف، أكاد أفقد تصبري لولا طيفك الذي لايزال يطوف في مخيلتي.
    كنت أبكي بهدوء، الدمعة تسكن أحداقي ولا تغادر، تدور في مخيلتي كربلاء: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله".
    عليَّ الآن أن أستقي من تلك المدرسة ما يعينني على الأيام القادمة تتوالى الصور في مخيلتي لأراكِ مولاتي قوية الإرادة، حيث تجلى صبرك في كثير من المواقف التي يعجز عنها بشر، أشعر بك حين رأيتِ أخاكِ قتيلاً، مظلوماً، عطشاناً، لقد عشتِ أحزان السيدة الزهراء والإمام علي (صلوات الله وسلامه عليهم)، في كل موقف في كربلاء وما بعد كربلاء، فجسدتِ الصبر بأروع صوره، حتى آخر رمق .
    عليَّ الآن أن أتماسك فوالدتي كسيرة القلب تحتاج نفوساً قوية في هذا الموقف، ويجب أن أتأسى بكِ لأكون قلباً صبوراً ولساناً شكوراً، لكن ثمة شيء غريب حصل على الرغم من عظمة مأساتي إلا أنّي أراني متماسكة أمتلك من رباطة الجأش الكثير، أشياء لم يسبق أن عهدتها في نفسي، عدا عن ابتسامة رضا كنت أقابل بها المعزين، يا إلهي من أين لي هذا؟!
    جلست إلى جانب الجسد المسجّى في زحمة المعزين، وعُدت بلمحة إلى مولاتي زينب (عليها السلام) كيف رأت أخاها وحيداً فريداً بين أعدائه، مسحت جبين أخي ورميت بنفسي على صدره، وإذا بي أرى الخيل تدوس الصدر الشريف ومولاتي تعاين ذاك الموقف، وحين قبّلت رأسه لاحَ لي طيفها (عليها السلام) وهي ترى رأس أخيها قطيعاً مرفوعاً على الرمح، كنت أعيش ثورة في داخلي في لحظات، الأمر الذي أثار قلق أمي المكلومة، خافت أن أفقد تماسكي، اقتربت مني وهي تحمل كأساً من الماء البارد وقالت لي بحنو: اشربي.
    لا يا أماه العطش العطش، وكيف أرتوي ومولاتي ترى النساء والأطفال والعطش يفتك بهم، وترى العباس قتيلاً، قطيع الكفين، وبجانبه قربة ممزقة.
    مالكِ يا ابنتي، ضمتني إلى صدرها، تصبّري، قالتها أمي، وقلبها ينزف حزناً، لا يا أمي لا.
    - قلتها بصمت– أرجوكِ، السيدة الزهراء (عليها السلام) لم تضمّ ابنتها في مصابها، لا، لا أحتمل .
    وعندما أسندت رأسي على كتف والدي لأستمد من شموخه القوة أجهشت بالبكاء على وحدة مولاتي وغربتها، وبُعد الولي (عليه السلام) عنها في أيامها العصيبة .
    أنا يا سيدتي بعد استشهاد أخي أرى الجميع يحوطني بالرعاية، الجميع يعيش محنتي، ويلقي عليّ محبة منه، يخاطبونني بعبارات تثلج قلبي وتطفئ لوهلة نيرانه، في حين كنتِ تعاينين الذعر الذي أصاب النساء والأطفال بعد حرق الخيام .
    وعندما حان الوداع، ودعت أخي ببضع كلمات ووعدته بأني سألوذ بضريحك لأستمد منك ذاك العنفوان وتلك القوة، أما عنكِ فقد حرمتِ لحظة الوداع تلك. مواقف كثيرة جعلتني أعيش مصابك سيدتي لحظة بلحظة لأرى صبرك وشجاعتك .
    الآن عرفت أي صبر، أي جَلَد ذاك الذي دعاك لأن تقفي في وجه الطاغية وتسطري أروع مواقف الشجاعة والجرأة وأنتِ جريحة .أما عن موكب السبايا فلا كلمات تروي ما حصل، ولا حروف تصف صبرك وتحملك.
    لقد جعلتِ مني إنسانة قوية كلما استشعرت قوتكِ وصلابتك التي ورثتيها عن البيت المحمديّ وإيمانكِ في مواجهة المصائب كلما شعرت بقوة هائلة تدفعني للتهيؤ للمزيد من الصبر، فما صبري بشيء مقابل ما مر بكِ من أحزان، فما أنا في هذه الدنيا سوى عابرة سبيل .​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X