مع زقزقة العصافير، وتغاريد البلابل، وتراقص فراشات الأمل أمام ناظري، أمسكت يد ابنتي بقوة حينها شعرت بتوتر؛ لأنها ستفارقني للمرة الأولى، فهي في ربيعها السادس، واليوم هو يومها الأول الذي ستذهب فيه إلى المدرسة.
في الطريق نظرت إلى وجهها المستدير الذي يشعّ بالبراءة والحيوية وعيناها اللوزيتان وشعرها الأسود كسواد الليل الداج، تتخلله تعرجات صغيرة منسدل على كتفيها، ملابس المدرسة وحقيبتها الوردية المرسوم عليها صورة الشخصية الكارتونية "ماشا" التي أصرت على شرائها، ولبّيتُ رغبتها بكل حب.
امتلكت جمالا ساحرا، وصلنا إلى المدرسة، دخلنا، اوصلتها إلى الصف الأول، كانت تنظر بحيرة وزخات من الدموع تلألأت في عينيها كانت على وشك الهطول، وكأنها تترجاني بالبقاء، حاولت ارتشاف خوفها، طمأنتها ووعدتها اني سوف أعود وآخذها بعد انتهاء الدوام، عانقتني بشدة، طبعت قبلة دافئة على وجنتها الممتلئة وردا، حركت يدها الصغيرة لتودعني.
في طريق العودة إلى منزلي، عدت بذكرياتي إلى ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى المدرسة، حين اركبني والدي على دراجته الهوائية كنت أشعر بأني أطير وشعري الحريري يلهو مع الريح يحجب عيناي عن النظر، اغلقها وأنا اقهقه وارتمي في أحضان السعادة.
لكن، عندما وصلت إلى باب المدرسة شعرت برهبة، وأنا اقف امام باب الدخول؛ تسمرت، نظرت إلى والدي كنت أريده أن يدخل معي، نظر إلي بتجهم قائلا: ادخلي سيدق الجرس.
سحبتني الذكريات إلى كل معلمة أحببتها، وكل معلمة أو طفل أو طفلة تنمّروا علي، وبأدق التفاصيل حتى المكان الذي كنت العب فيه مع صديقات الطفولة: «شدة يا ورد شدة، يا بنات يا بنات ليش متغسلون ثوبي، واحد رماني ثنين رماني».
عودتي إلى الماضي الذي نفض التراب عن ذكرياتي الهاجعة، جعلني أتفكر في ذلك اليوم الذي سوف اخرج فيه من سجن الدنيا، حين أنظر إلى اهلي واقاربي نظرة اللاعودة، وهم يواروني تحت الثرى، وروحي المنهكة تحوم حولهم وتنادي ولا أحد يصغي لها، ثم يرحلون بعيدا، أبقى وحيدة في حفرتي انظر يمينًا وشمالًا لا أحد يؤنس وحدتي، اعمالي تُعرض عليّ كشريط سينمائي من المهد إلى اللحد، ترتعش فرائصي من الهلع، كل ما زرعته من صالح وطالح سألقى جزائي عليه، تتعالى صرخاتي: ربّ ارجعوني لعلي أعمل صالحًا.
القشعريرة سرت في بدني، شعرت برغبة عارمة بالبكاء، حوقلت، وقلت: أفوّض امري الى الله إن الله بصير بالعباد. اللهم اختم عواقب أمورنا خيرًا. اللهم لا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا.
قلت في نفسي: ما دُمتُ على قيد الحياة، سوف أعاود الاتصال، وأسعى إلى ما يرضي الله تبارك وتعالى.