الاهتمام بدراسة دور المرجعية الدينية في جميع أزمنة السياسة في العراق وتأثيرها المباشر نجده في بحث "دور المرجعية الدينية وتشكيل الحكم الوطني في العراق" للباحث أ.م. د سيف عدنان رحيم القيسي من الجامعة العراقية كلية الآداب، وهو من بحوث مهرجان فتوى الدفاع المقدسة في العتبة العباسية المطهرة.
الخوض في تاريخ العراق السياسي يعطينا أهمية الدور الذي لعبته المرجعية، حيث سعى البحث الى كشف العوالم التي أدت الى تميز هذا الدور وملخصها أن جهد المرجعية لم يقتصر على شؤون الطائفة، وانما عايشت المرجعية كل أمور الوطن.
وارتكز البحث على فقرات مهمة:
الفقرة الأولى: الاشتغال على محورين، الأول الاحتلال، والثاني الجهاد، واعتمد على مصادر عربية ومعربة ومذكرات شخصية سلطت الضوء على دور المرجعية التي لها القدرة على إصدار الأحكام والقرارات في كل الشؤون الدينية والدنيوية؛ لكونها غير خاضعة لسلطة الدولة من الناحية المادية فحفزت في نفوس العراقيين فكرة التمرد على الدولة العثمانية، ووجدت لها أرضًا خصبة صالحة، لكن المرجعية حالت دون القيام بها؛ خوفًا من حدوث خلل في كيان الأمة الإسلامية، هذا الموقف يسجل للمرجعية في أحلك ظروف الدولة العثمانية، وفي ظل تعاون سري بين البريطانيين والشريف حسين بن علي الذي بدأ يعدّ العدة للانتفاض عليها.
الفقرة الثانية: تنامي الوعي السياسي تحت المظلة الدينية للمرجعية فعلت المواجهة الحقيقية في مدن كربلاء والنجف، وكانت محاولة القوات البريطانية تطمين السكان المسلمين؛ لكونها متيقنة بالمخاوف المحيطة بقواتها في العراق، فلم يلقَ بيان البريطانيين تجاوبًا من المرجعية الدينية بالمقابل اهتمام الحكومة العثمانية منصبّ على كيفية تحريض المرجعية الدينية للانضمام اليها، وتجنيد كتائب المجاهدين، وبدأ الالتحاق بالسيد محمد سعيد الحبوبي في الشعيبة تشكل فقرة ثالثة من البحث، حيث اجتمع في الصحن الكاظمي شيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ محمد مهدي الخالصي والمرجع الديني الشيخ مرزا محمد تقي الشيرازي الذي أرسل ابنه الشيخ محمد رضا للالتحاق بالوحدات المحاربة رسائل استغاثة من الوالي العثماني جاويد باشا في البصرة بالسيد عبد الرزاق الحلو أول علماء الدين الواصلين للسماوة، جاء فيها: أتوسل اليك برسول الله وآل البيت بفاطمة الزهراء أنقذني.
وهنا ملاحظة مهمة، لو ننتبه الى أسماء القيادات المرجعية لعرفنا أن قيمة الانتماء الوطني ليست في الألقاب، وانما في الوجدان، فكانت قيادات المرجعية الشيخ فتح الله الصفهاني شيخ الشريعة، والسيد علي التبريزي، والسيد مصطفى الكاشاني، والمرزا مهدي الخرساني، والمرزا محمد رضا الشيرازي، والشيخ حسن علي القطيفي، حضروا لتجهيز المقاتلين عدد المقاتلين وكانوا (15) ألف مقاتل للدفاع عن البصرة، وتجهيزهم شخصي، ولم يكن للدولة العثمانية دور في تجهيزهم أغلب المشاركين، وهم من مقلدي المرجعيات، قاتلوا قتال الأبطال، لكن انتحار سليمان عسكري قائد القوات العثمانية أدى الى تفتيت معنويات المقاتلين، مما يثبت عدم قدرة الدولة العثمانية، بعكس الدفاع المستميت من قبل العشائر العراقية بقيادة المرجعية الدينية، ولم يكن الانكسار عراقيًّا بل كان عثمانيًّا أيقنت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وروسيا أن مفتاح السيطرة على العراق بيد المرجعية الدينية؛ لما تمتلك من تأثير، وزير الخارجية الروسي سازانوف يبلغ سفيري إنكلترا وفرنسا في بطرس بيرغ بتاريخ (11 أيلول 1915م) أكد الوزير على ضرورة الاهتمام بمدينتي النجف وكربلاء وتحريرهما من أيدي الاتراك، اعترض وزير الخارجية البريطاني؛ لأنه سيعد تدخلًا في شؤون النجف وكربلاء، والاقدام على عمل كهذا يؤدي الى انتشار دعايات مفادها أننا نتدخل في شؤون العتبات المقدسة.
لقد كانت المرجعية مصدرًا وطنيًّا عراقيًّا ضد كل الكيانات الاستعمارية.
الفقرة الرابعة: أخذت المدن الدينية تنظم نفسها وثار أهل النجف على القوات البريطانية رافضين تواجدهم في المدينة في (19 تشرين الثاني 1917م) تجهروا أمام السراي وتظاهروا بالسلاح وأطلقوا السجناء، وثارت مدينة أبي صخير والجسر وغيرها.
كان المرجع كاظم اليزدي يعمل لإصلاح ما حدث بين النجفيين والبريطانيين، البريطانيون اهتموا بالسيد اليزدي اهتمامًا حكوميًّا رسميًّا ونصبت الدارة البريطانية حاكمًا عسكريًّا اسمه الكابتن مارشال اتخذ من خان عطية أبو كلل مقرًا له، النجفيون اسسوا جمعية باسم النهضة الإسلامية أسسها السيد محمد علي بحر العلوم، والشيخ محمد الجزائري، والشيخ محمد علي الدمشقي، وعباس الخليلي، ونجم البقال .
البريطانيون يسعون لبعث روح الطمأنينة في نفوس العراقيين، فأصدروا تصريحًا يقول: نهضنا لتحريركم. الأحداث كثيرة لكن جميعها توضح ان البعد الديني والعشائري مع وجود البعد الفكري عوامل أسهمت في انطلاق الثورة.
الفقرة الخامسة: تشير المسز بيل سكرتيرة المندوب البريطاني عن دور المرجعية في التوفيق بين طوائف الشعب العراقي، ويكفي ان مرجعية الشيرازي أصدرت فتوى في كربلاء كفرت فيها كل من كان يرغب في حكم غير إسلامي في العراق، وتبنّى الشيرازي منذ اول يوم تسلم المرجعية مبدأ "الأمة هي الولية على نفسها".
أيقنت المرجعية الدينية عدم جدية البريطانيين في إعطاء الحقوق بالطرق السلمية، فلجأت الى الجهاد، وقد نبّه المرجع الشيرازي الى قضية جوهرية هي ضرورة العمل على التقريب بين الطوائف الدينية لا سيما مع السنة ليوسع مجال العمل كحركة وطنية، تزيد في قوتها، إن موقف المرجعية الدينية في تشكيل نظام الحكم في العراق هي محاولة منها للتخلص من الإدارة البريطانية.