تويت
:ــ (خذ الحكمة من أفواه المجانين)
استوقفني الرجل بجميل قوله، وأنا أستمع للمثل الذي قاله، وكأني لأول مرة اسمعه، قلت له: لو تسمح لي أن نتحاور بشأن هذا المثل؟ قال بهدوء: ومن أنت بلا زحمة؟
:ـ صحفي من جريدة صدى الروضتين.
:ـ اهلًا وسهلًا .
:ـ أردت أن اسألك عن المثل الشعبي؟
وإذا به يجيبني بلغة الباحث المتمكن:ـ المثل الشعبي شكل تعبيري له انتشار واسع يحمل مشاعر الشعوب على اختلاف انتماءاتها؛ تجسيدًا لعاداتها ومعتقداتها، وللأمثال دلالات إنسانية شاملة، فالمثل الشعبي يا بني ذاكرة الشعوب، سريع التداول والانتشار من جيل الى آخر، ومن لغة الى أخرى، والمثل ورد في الذكر الحكيم، قال الله تعالى: «مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً...». {البقرة/26}.
:ـ أ هو جنس أدبي مستقل أم يُعامَلُ معاملة الحكمة؟
:ـ المثل جنس ادبي قائم بذاته، هو قول موجوز صائب بالمعنى، وهو من أكمل النماذج دلالة على عبقرية أجدادنا وخلاصة تجاربهم، أدب زاخر بالإبداع وبالقيم الحضارية.
ووردت في كتاب الله آيات كثيرة مثل: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ» {الرعد/17}.
اتفق كثير من الباحثين على أن هذين المصطلحين يحملان نفس المعنى، وهناك من أكّد أن المثل يقوم على أساس التشبيه، أما الحكمة فمهمتها إصابة المعنى، وترمي الى التعليم، وتقوم على التجربة وتستدعي التأمل وهي أكثر قابلية للتعميم.
وهناك تشخيص لطيف يرى أن المثل فيه مورد ومضرب عكس الحكمة، أي هناك قصة أصلية أطلق عليها المثل والمضرب، حال تعبّر عن بغض أو تصحيح اعوجاج، بينما الحكمة توجيه أخلاقي.
قلت:ــ الحكمة أصدق من المثل؟
أجابني مبتسمًا:ــ المثل أصدق؛ لكونه ألصق بالحياة الشعبية وأقرب، هو الذي يصوّر حياة الناس، المثل لا يهدف الى التعليم والتوجيه، وانما يرمي الى تصور تجربة إنسانية، ويصدر عن عامة الناس، والحكمة لا تصدر الا عن فئة معينة من الناس.
واوجه الاتفاق أن الهدف توجيه سلوك الفرد ومحاولة إصلاحه، الوعظ وتقرير أصول قضايا السلوك وقواعد المعرفة والمعتقدات.
قلت:ـ هذا يعني ان المثل يشترك مع الحكمة في التوجيه والإرشاد؟
قال:ـ ويلتقي معه في ايجاز العبارة ليسهل التداول والانتشار، وفي المثل هناك لغة الحياة اليومية السائدة غير خاضعة لقوانين أو ضوابط لغوية. قلت: أسألك عن قصة المثل الذي سمعتك تردده «خذ الحكمة من افواه المجانين»؟
ابتسم حينها وقال:ــ
يُقال بأنه توفي رجل ثري خارج بلاده، ووصل خبر وفاته إلى أولاده وحدد ولده الكبير يوم العزاء، لكن إخوته أرادوا توزيع الميراث، فلامهم الأخ الأكبر وطلب منهم الانتظار حتى انتهاء مراسيم العزاء، لكنهم أصرّوا على توزيع التركة اليوم قبل كل شيء، رفض مطلبهم، قدّموا شكواهم إلى المحكمة وأقاموا دعوى عليه.
وفي اليوم المُحدد للجلسة أرسل القاضي في طلبه، أخذ يبحث عن مخرج وردّ للأمر، قاده تفكيره إلى الذهاب لرجل عُرف عنه رجاحة الرأي، ليستشيره وسرد عليه قصة إخوته وإصرارهم على الحصول على ميراثهم، لكنه لم يجد عنده الجواب، دلّه هذا الرجل على شخص يتهمه غالبية الناس بالجنون، استغرب وقال: هو مجنون كيف يحلّ مشكلة عجز عن حلها العقلاء؟
وفي النهاية ذهب إليه وسرد عليه القصة، وبعد أن انتهى من كلامه قال له المجنون قل لإخوانك: هل عندكم من يشهد بأن أبي قد مات؟ فقال:ــ خذوا الحكمة من أفواه المجانين، كيف لم أفكر في هذا؟.
وحضر المحكمة وقال للقاضي ما قال له المجنون، فقال القاضي إنك محق. ووجه كلامه للإخوة: هل عندكم شهود؟، قالوا: أبونا توفي في بلد بعيد وجاءنا الخبر، ولا يوجد شاهد على ذلك.
قال لهم القاضي:ــ آتوا بالشهود. وظلت القضية مُعلقة سنة ونصف السنة. فقال لهم أخوهم: لو صبرتم أسبوعاً لكان خيراً لكم.
قال وهو يودعني:ــ في هذا الزمان ما اشد احتياجنا لمثل هذا المجنون الحكيم.