نحتاج في رحلتنا في هذه الدنيا إلى مايعيننا على اجتياز هذا العالم نحو الضفة الاخرى ، دروس نستلهمها من منبعها الوضاء ، وإلا فما نحن إلا عابري سبيل ..
إنها الثالثة صباحاً ، استيقظت فزعة ياإلهي ما الذي حصل ؟! تلك الرموز أدركها جيداً !
إن صدق حدسي فما هي إلا أضغاث أحزان .
نعم لقد ضاق صدري البارحة ثمة رسالة تحتاج إلى تأويل ..
دون أن أشعر خلدت إلى النوم ثانية لأرى في الحلم نوراً يأتيني من بعيد يشعّ كما بريق الفضة على وجه الماء ، الخشوع ملأ المكان ، السيدة تتجه نحوي
من تكون تلك السيدة الجليلة؟ - قلت في نفسي - وقد غطت وجهها فلا يبدو لي سوى قداسة تحيط بها ، تكاد الأرض تهتز وتربو من خطاها ، أكاد اشعر بأن الأرض خانها دورانها فتوقفَت لبرهة !
وأن العوالم بكلها تهلل وتكبر ، ثمة قشعريرة تسري في روحي فالكون كله يسير بشكل غير اعتيادي و ما أحسبني في تلك اللحظة إلا جرم صغير ضئيل في هذا الكون !
ارتعشت قلباً وروحاً من ذاك الموقف القدسي إذ السيدة تتجه نحوي ، أحنيتُ رأسي قليلاً إجلالاً واحتراماً ، ثم توقفَت لتقدم لي عباءة سوداء ، مسحتْ على رأسي ، واستدارت عائدة وغشاوة كانت قد غطت عينيّ .
الهاتف يرن بصخب جاء الصوت و كأنه يهتز كما ارتداد الصدى ، ماذا ؟
لعلي أخطأت الفهم ..
أغلقت الهاتف ..
لقد استشهد أخي !
حاولت أن استجمع قواي الخائرة إثر ذاك الخبر ، صمتّ لبرهة ..
وفي لحظة أدركت كل شيء ، ماالمطلوب مولاتي ؟
الصبر .. نعم الصبر
إني آنست صبراً لعلي آتِ منه بقبس !
هبيني ياسيدة الصبر قبساً من صبرك لأتحمل المصاب ، لهف قلبي عليكِ كيف وقفتِ ذاك الموقف ، أكاد أفقد تصبري لولا طيفك الذي لايزال يطوف في مخيلتي ..
كنت أبكي بهدوء ،الدمعة تسكن احداقي ولاتغادر ، تدور في مخيلتي كربلاء "لايوم كيومك ياأبا عبد الله "
عليَّ الآن أن أستقي من تلك المدرسة مايعينني على الأيام القادمة تتوالى الصور في مخيلتي لأراكِ مولاتي قوية الإرادة ،حيث تجلى صبرك في الكثير من المواقف التي يعجز عنها بشر ، أشعر بك حين رأيتِ اخاكِ قتيلاً، مظلوماً ، عطشاناً ، لقد عشتِ أحزان السيدة الزهراء والإمام علي صلوات الله وسلامه عليهم ، في كل موقف في كربلاء و ما بعد كربلاء ، فجسدتِ الصبر بأروع صوره ، حتى آخر رمق .
عليَّ الآن أن أتماسك فوالدتي كسيرة القلب تحتاج نفوساً قوية في هذا الموقف ، ويجب أن أتأسى بكِ لأكون قلباً صبوراً ولساناً شكوراً ، لكن ثمة شيء غريب حصل على الرغم من عظمة مأساتي إلا أنّي أراني متماسكة أمتلك من رباطة الجأش الكثير ، أشياء لم يسبق أن عهدتها في نفسي ، عدا عن ابتسامة رضا كنت أقابل بها المعزين ، يإإلهي من أين لي هذا ؟!
جلست إلى جانب الجسد المسجى في زحمة المعزين و عُدت بلمحة إلى مولاتي زينب ع كيف رأت أخاها وحيداً فريداً بين أعدائه ، مسحت جبين أخي ورميت بنفسي على صدره ،وإذ بي أرى الخيل تدوس الصدر الشريف ومولاتي تعاين ذاك الموقف ، وحين قبّلت رأسه لاحَ لي طيفها ع وهي ترى رأس أخيها قطيعاً مرفوعاً على الرمح ،كنت أعيش ثورة في داخلي في لحظات .. الأمر الذي أثار قلق أمي المكلومة ، خافت أن أفقد تماسكي ، اقتربت مني وهي تحمل كأساً من الماء البارد وقالت لي بحنو : اشربي
لا ياأماه العطش العطش .. وكيف أرتوي ومولاتي ترى النساء والأطفال والعطش يفتك بهم ، وترى العباس قتيلاً ، قطيع الكفين .. و بجانبه قربة ممزقة .
مالكِ ياابنتي ضمتني إلى صدرها ، تصبّري قالتها أمي وقلبها ينزف حزناً .. لاا ياأمي لا
- قلتها بصمت - أرجوكِ .. السيدة الزهراء ع لم تضم ابنتها في مصابها .. لا ، لاأحتمل .
وعندما اسندت رأسي على كتف والدي لأستمد من شموخه القوة أجهشت بالبكاء على وحدة مولاتي وغربتها ، وبُعد الولي ع عنها في أيامها العصيبة .
أنا ياسيدتي بعد استشهاد أخي أرى الجميع يحوطني بالرعاية ،الجميع يعيش محنتي ، ويلقي عليّ محبة منه ، يخاطبونني بعبارات تثلج قلبي وتطفئ لوهلة نيرانه، في حين كنتِ تعاينين الذعر الذي أصاب النساء والأطفال بعدحرق الخيام .
وعندما حان الوداع ودعت أخي ببضع كلمات ووعدته بأني سألوذ بضريحك لأستمد منك ذاك العنفوان وتلك القوة ، أما عنكِ فقد حرمتِ لحظة الوداع تلك ..
مواقف كثيرة جعلتني اعيش مصابك سيدتي لحظة بلحظة لأرى صبرك وشجاعتك .
الآن عرفت أي صبر ، أي جَلَد ذاك الذي دعاك لأن تقفي في وجه الطاغية وتسطري أروع مواقف الشجاعة والجرأة وأنتِ جريحة .
أما عن موكب السبايا فلا كلمات تروي ماحصل ولاحروف تصف صبرك وتحملك.
لقد جعلتِ مني إنسانة قوية كلما استشعرت قوتكِ وصلابتك التي ورثتيها عن البيت المحمديّ وإيمانكِ في مواجهة المصائب كلما شعرت بقوة هائلة تدفعني للتهيؤ للمزيد من الصبر فما صبري بشيء مقابل ما مر بكِ من أحزان .. فماأنا في هذه الدنيا سوى ..... عابرة سبيل .
تعليق