يقول بعض المعاصرين إنَّ زينب كانت مجرّد امرأة عادية كسائر النساء، حيث روى المؤرِّخون عنها صورًا من الجزع والانهيار عند المصيبة، من قبيل انهيارها ليلة العاشر من المحرم عندما سمعت أخاها الإمام الحسين ينعى نفسه، ومن قبيل خروجها يوم العاشر ومدافعتها للشمر وهي في حال انهيار وجزع أثناء قتل الحسين ، ونحو ذلك من المواقف، وإنَّما حصل التضخيم لشخصيتها في العقود المتأخِّرة على يد بعض الكُتّاب وخطباء المنبر، حتى اُعْتُبِرَت شريكة الحسين في نهضته، فما هو رأيكم في هذا الطرح؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة على المصطفى وآله المعصومين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
وبعد، فقد تعرّضت لجملة من النقاط المرتبطة بهذا المحور في حوار عبر الزوم قبل عدّة أشهر، كما تعرّضت له في محاضرة عن عظمة شخصية العقيلة فخر المخدّرات بطلة كربلاء زينب في شهر محرم قبل حوالي سنة ونصف عام 1441هـ، والجواب عن الطرح المذكور يعتمد على ذكر عدّة أمور:الأمر الأول: أنحاء تناول التاريخ.
إنَّ تناول التاريخ على أنواع ثلاثة:
- السرد التاريخي: ويكفي في اعتباره كون الحدث مرويًا بشكل متناسب مع سياق الأحداث، وعدم مصادمته للعقل القطعي والمعتقد الثابت بالأدلّة.
- التحقيق التاريخي: ويعتمد على عدّة أدوات علمية يأتي بيانها.
- التحليل التاريخي: وهو بلورة كيفية الحدث بما ينسجم مع سياق الظروف التاريخية والسنن العامّة.
- شهرة الخبر، بمعنى تعدّد رواته أو نقلته على نحو العرضية لا الطولية؛ كي لا ينفتح مجال تأثّر اللاحق بالسابق الموجب لإعاقة رجحان الاحتمال. نعم، لو كان اللاحق ناقدًا خبيرًا فهو مصداقٌ للأداة الآتية، حيث إنَّ خبرويته بذاتها عاملٌ من عوامل رجحان الاحتمال، لكن لا من جهة حيثية الشهرة.
- أن يكون الناقل للخبر من المؤرِّخين المعروفين بالتدقيق والتثبّت، ولو كان من المتأخِّرين.
- ورود الخبر في كلمات القدماء في القرون المتاخمة لزمن التاريخ نفسه، كأن يكون الرواة والكتب الناقلة للحدث في حقبة ما قبل القرن السادس الهجري بالنسبة لتاريخ أهل البيت ، أو أن ينقل الخبر مؤرِّخ متأخّر ولكن عن نسخة صحيحة تعود للقرون الأولى، سواءً ورد على سبيل الرواية أو الرجز أو الشعر السردي.
- اقتضاء الدلائل العقدية أو المناسبات العرفية أو السنن الاجتماعية للحدث، أو اقتضاء السياقات التاريخية لوقوع الحدث، أو وجود بعض المعالم التاريخية التي توارثتها الأجيال، نحو آثار معارك الرسول في المدينة، أو الحفريات الثابت رسوخها في القدم من قبل خبراء علم الآثار، أو وجود الصكوك والأوقاف القديمة على موقع معيّن بحيث ترشد لحدث تاريخي، ونحو ذلك، بل قد يكون الخبر مرسلًا ولكن المتن والشواهد العقدية والمناسبات العرفية والسياقات التاريخية تقتضي رجحان صدوره.
الأمر الثاني: عدم تنافي البكاء مع الصبر والتسليم.
لا ريب في أنَّ ما حصل من السيّدة العظيمة زينب بنت أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء - سواءً كانت هي زينب العقيلة، أم شقيقتها الجليلة المكنّاة بأم كلثوم - ليلة العاشر من المحرّم عندما سمعت الحسين ينعى نفسه، ليس نقصًا ولا خروجًا عن ديدن الصبر والتسليم لقضاء الله وقدره، وإنَّما هو افتجاعٌ فرضته فظاعة المصاب وشدّة النائبة لأيّ إنسان في ظرفها، بل هو افتجاعٌ جاء في خطّ الاقتداء والتأسّي بما أظهره الرسول من البكاء والحزن على ريحانته سيد الشهداء منذ كونه رضيعًا وقبل شهادته.
وكيف يعدّ ذلك ضعفًا أو نقصًا وقد بكت أمّها البتول الصدّيقة على أبيها رسول الله حتى اشتكى بعض أهل المدينة من بكائها، وبكى الإمام الحسين على ولده الأكبر حتى وقع إلى جانبه وقال: «يا بني هاشم، احملوا أخاكم؛ لا طاقة لي بحمله»، وغيرها من الصور المعروفة عن أهل البيت .
كما أنَّ ما ورد في عدّة مصادر من خروج السيّدة الجليلة القدر زينب - سواء كانت هي الكبرى أو الصغرى - إلى ميدان المعركة حين مصرع الحسين الشهيد ومدافعتها لقاتله صورةٌ رائعةٌ من صور الجهاد الدفاعي عن ثقل النبوة والإمامة إمام زمانها وحجّة الله عليها.
الأمر الثالث: تعدّد المسمّاة بـ «زينب».
لقد ذكر الشيخ المفيد «قدّس سرّه» في كتاب «الإرشاد: ج1، ص354» - وهو أصحّ المصادر عندنا - أنَّ أولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ذكرًا وأنثى، منهم الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكنّاة أم كلثوم، أمّهم فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين ، كما نقل عنه في «أعيان الشيعة» أيضًا أنَّ المسمّاة بزينب من بنات أمير المؤمنين ثلاثٌ، إحداهن زينب الكبرى، وأمّها الزهراء ، والثانية المكنّاة بأم كلثوم، وأمّها الزهراء أيضًا، والثالثة أمّها غير الزهراء ، والأخيرتان يُعبَّر عنهما بزينب الصغرى، وسوف نتعرّض لشأن كلّ واحدة من الأختين فيما يأتي.
الأمر الرابع: عظمة شأن الكبرى العقيلة .
إنَّ السيّدة العظيمة فخر المخدّرات زينب العقيلة قد تميّزت شخصيتها على جميع نساء بني هاشم بعد أمّها الصدّيقة الشهيدة فاطمة الزهراء بعدّة خصال، منها:
1- العصمة: حيث إنَّ توافر المقامات العظيمة فيها - نحو ثبوت العلم اللدني لها، وحلولها محلّ النيابة الخاصة عن الإمام المعصوم ، وقيامها بأعباء ثقل الوصية لسيد شباب أهل الجنة، مع مجموع صفاتها الربانية الأخرى - كاشفٌ عن بلوغها درجة من العصمة لا يضاهيها فيها أحدٌ من غير المعصومين ، وقد يُستأنس لذلك بما قالته في خطبتها أمام يزيد بن معاوية: «الحمد لله الذي أكرمنا الله بنبيّه محمّد وطهّرنا من الرجس تطهيرًا»، في إشارة لشمول آية التطهير في القرآن الكريم لها، مع أنَّ الآية خاصة بالمعصومين الأربعة عشر ، حيث إنَّها من مميّزاتهم عن سائر الخلق، إلّا أنه قد يُستأنس من استشهادها بجملة الطهارة منها أنها ملحقةٌ بهم تنزيلًا لا حقيقة من حيث اتصافها بمرتبة من مراتب الطهارة.
2- العلم اللدني: بناءً على ما ورد عن الإمام زين العابدين علي في حقّها: «أنتِ بحمد الله عالمةٌ غير معلَّمة»، والفتح الإلهامي فيما ورد عنه من قوله : «وفاهمة غير مفهّمة» الذي هو على نسق ما ورد عن أبيها المرتضى : «علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب»، بل إنَّ في تعبير السجّاد ب «بحمد الله» دلالةً على أنَّ وجود السيّدة العقيلة نعمةٌ على أهل بيت النبوة تستحقّ الشكر.
3- أنَّها الجوهرة الجامعة للأنوار الخمسة المحمّدي والعلوي والفاطمي والحسني والحسيني، وذلك يتجلّى من خلال مقارنة خطبتها البليغة مع خطبة أمّها الزهراء وأبيها أمير المؤمنين ، حيث يظهر بذلك اشتراكها مع النور العلوي والفاطمي في العلم والمعرفة والنفس والبيان وإن تفاوتت المراتب.
4- اهتمام أمير المؤمنين بها في وصيّته لولديه الحسنين «عليهما السلام» وأخيهما محمد بن الحنفية برعايتها والاهتمام بها، ووصية الإمام المجتبى للإمام الحسين «عليهما السلام» بها، واهتمام سائر أبناء أمير المؤمنين بها منذ خروجهم من المدينة وحتى وصولهم إلى كربلاء، مما يكشف عن مقامها السامي في الأسرة العلوية الفاطمية.
5- بلوغها أسمى درجات الفناء والتسليم والرضا في قوّة جنانها وصبرها الذي تحدّث عنه رواة التاريخ، والذي تجسّد فيما ورد في وصفها أنَّها حينما رفعت جسد الإمام الحسين قالت: «اللهم تقبّل منّا هذا القربان».
6- النيابة الخاصة: فإنَّها التي أسند إليها الإمام الحسين الشهيد الوصيّة والقيام بحمل أعباء الأمانة، وقيادة ثقل بيت النبوة والرسالة بعد مقتله، مع وجود إمامها المعصوم، وهو الإمام زين العابدين علي ، وإنَّما توجّه إليها عبيد الله بن زياد بالخطاب حين قال: «الحمد لله الذي فضحكم...»، وكذلك توجّه إليها يزيد بن معاوية بالخطاب؛ لعلمهما أنّها منار القيادة، وواجهة أهل بيت النبوّة بعد رحيل الإمام الحسين ، ولذلك ذكر والي المدينة ليزيد بن معاوية أنَّها امرأة فصيحة بليغة تجمع الأنصار للأخذ بثأر الإمام الحسين ، ممّا يكشف عن ثقلها الاجتماعي في نفوس المسلمين، وأنَّها الوريثة للزهراء وأمير المؤمنين «عليهما السلام» بنظر المسلمين.
ويكفيها فخرًا وشرفًا هذه النيابة الخاصة عن الإمام الحسين ومقام المرجعية بعد رحيله، حيث كان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام، حتى ارتفعت الموانع عن الإمام زين العابدين ، فقد روى الشيخ الصدوق في «كمال الدين وإتمام النعمة: ص501» والعلامة المجلسي في «البحار: ج46، ص19» عن علي بن أحمد بن مهزيار عن محمد بن جعفر الأسدي عن أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة بنت علي بن محمد الرضا أخت أبي الحسن العسكري في سنة 282 هـ في المدينة، فكلّمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها، فسمّت لي من تأتم به، ثم قالت: فلان بن الحسن فسمّته، فقلت لها: جعلني الله فداكم، معاينةً أم خبرًا؟ فقالت: خبرًا عن أبي محمد كتب به إلى أمّه، فقلت لها: فأين المولود؟ فقالت: مستور، فقلت: فإلى من تفزع الشيعة؟ فقالت: إلى الجدّة أمّ أبي محمد ، فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى المرأة؟! فقالت: اقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالب ، إنَّ الحسين بن علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي بن أبي طالب في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنْسَب إلى زينب بنت علي تستّرًا على علي بن الحسين.
وكلّ ذلك يكشف عن وفرة علمها وشدّة صيانتها للدين في مقام تبليغ الأحكام الشرعية وتطبيقها وتعليمها، ولذلك اختيرت للنيابة عن المعصوم ، ومع هذا كلّه فكيف يقال إنَّ السيدة العقيلة امرأة عادية كسائر النساء، وإنَّ الأقلام والمنابر هي التي قامت بتضخيم شخصيتها في السنوات الأخيرة؟!
وقد كتبت عنها أقلام أهل السنة والشيعة منذ القدم:
أ- فقد ذكر خطبتها المشهورة ابن أبي طيفور المتوفى عام 280 هـ في كتابه بلاغات النساء، والذي كتب في أوله: «هذا كتاب بلاغات النساء وجواباتهن، وطرائف كلامهن، وملح نوادرهن، وأخبار ذوات الرأي منهن».
ب- وقال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين «ص60» في ترجمة ولدها عون: «وأمّه زينب العقيلة بنت علي بن أبي طالب، وأمّها فاطمة بنت رسول الله ، والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك فقال: حدّثتني عقيلتنا زينب بنت علي»، مع أنَّ عمرها حين تلقّت خطبة أمّها أربع سنوات، كما أنَّ تعبير ابن عباس عنها بعقيلتنا إشارة واضحة لعظمة مكانتها في بني هاشم، فقد ذكر في لسان العرب وتاج العروس: «عقيلة القوم سيدهم، وعقيلة كل شيء أكرمه، وهي في الأصل المرأة الكريمة النفيسة».
ج- وقال عنها في سفينة البحار «ج3، ص 497»: عدّها عز الدين أبو الحسن الجزري المعروف بابن الأثير - المتوفى عام 630 هـ - من الصحابة، وقال عنها «امرأة عاقلة لبيبة جزلة، زوّجها أبوها من عبد الله بن أخيه جعفر»، إلى أن قال: «وكلامها مع يزيد بن معاوية في الشام حين طلب الشامي أختها فاطمة بنت علي [هكذا ورد في المصدر، والصحيح بنت أخيها] مشهورٌ مذكورٌ في التواريخ، وهو يدلّ على عقل وقوّة جنان».
د- ونقل الشيخ جعفر النقدي في كتابه «زينب الكبرى: ص 27» عن كتاب «جنات الخلود» المكتوب باللغة الفارسية للشيخ المعاصر للمجلسي صاحب البحار ما معناه: كانت زينب الكبرى في البلاغة والزهد والتدبير والشجاعة قرينة أبيها وأمها «عليهما السلام»، فإنَّ انتظام أمور أهل البيت بل الهاشميين بعد شهادة الحسين كان برأيها وتدبيرها .
هـ- ونقل عن ابن عنبة في أنساب الطالبيين: «زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين تروي عن أمها فاطمة ، وقد امتازت بمحاسنها الكثيرة وخصالها الحميدة وشيمها السعيدة وفضائلها الظاهرة»، وعن الحافظ السيوطي في رسالته الزينبية: «وكانت لبيبة عاقلة جزلة لها قوة جنان»، وعن النيسابوري في رسالته العلوية: «كانت زينب بنت علي عليهما السلام في فصاحتها وبلاغتها وزهدها وعبادتها كأبيها المرتضى وأمها الزهراء ».
كما أثنى غيرهم من المتقدّمين كثير، وقد تناول الثناء عليها منذ ما يزيد عن سبعين سنة بعض الباحثين من السنة والشيعة، كما في كتاب «بطلة كربلاء» للدكتورة عائشة بنت الشاطئ، وكتاب «النهضة الحسينية» للسيّد هبة الدين الشهرستاني، وكلاهما وصفاها بأنها الثائر شريك الحسين في نهضته.
وبعد ما مرّ عرضه من الفضائل نقول: حيث لا يُحْتَمَل تعدّد من تتوفّر فيه جميع هذه الصفات، يتعيّن أن يكون المقصود بها جميعًا هو السيّدة زينب الكبرى العقيلة الملقّبة بفخر المخدرات وأم المصائب ، بضميمة قيام المرتكز الإمامي القطعي على أنَّ من تمثّل فيها مقام النيابة والوصية للإمام الحسين هي العقيلة الكبرى.
تعليق