من بين بيوت الطين المستظلة بأشجار النخيل ، عند ضفاف شط الحِلة تبدأ حكاية من حِكايات المدينة الفاضلة..تلك المدينة التي جادت على مسيرة التجدد المعرفي، بآيات الفقاهة وجهابذة العلم وصناديد الفكر وقامات الأدب والفنون ..
ومن عشيرة(العيفار) الشمرية العربية الأصيلة، يطل (الفقيه المُحقق) بهيئته المتواضعة ،وقامته السامقة مُعتماً عمامة الزهد والاخلاص،و هو الذي عَزَفَ عن الدنيا ،و أي طموح مادي، سوى خدمة مذهبه ووطنه وعامة الناس ولا غير.. حتى قال عنه سيد النخيل ومولى العراقيين الامام السيستاني: "ذلك أستاذنا الشيخ حسين الحلي، عاش بعيداً عن الأضواء، ومات سعيداً".
لقد كان والده الشيخ (علي) طيب الله ثراه من ذوي الفضل والفقاهة والتقى والنُسك، و إمام الجماعة في الصحن الحيدري الشريف ، برز في المجتمع العلمي النجفي، كشخصية لها مكانتها بين أعلام الحوزة العلمية ، وعرف بـ(أحد العلماء الأبدال ، والصلحاء الأبرار) الذين أطبَقَت على صلاحه وجدارته كلمة الخاص والعام..
ومن هذا الاب الصالح كان الابن المصلح "حسين "..والذي قدمته أقلام جهابذة الفكر على أنه (آية الله العظمى،وسيد العلماء الاعاظم، واستاذ الفقهاء الاكارم الشيخ حسين الحلي)، كأحد الأرقام الصعبة في مسيرة المرجعية الدينية والحوزة العلمية في النجف الاشرف ..
ولك ان تعرف علو قدحه وسمو مرتبته عند الاكابر ، من الاهتمام الكبير به والخاص (جداً) لمرجع الطائفة وشيخها المقدام (الميرزا النائيني ، والرجوع اليه في مهام امور مجلس الإستفتاء، الذي شكَلّه(الفقيه النائيني) بإلحاح تلميذه (الحلي) ، فكانت أغلب أجوبة المسائل الشرعية التي ترد إلى المرجع الكبير تصدرُ عن الشيخ الحلي وبقلمه.
كان من الممكن - أن يتصدى للمرجعية بعد وفاة المرجع العام للمسلمين الشيعة (السيد أبي الحسن الموسوي الاصفهاني) كما تصدى أقرانه من أكابرالعلماء ، لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا.. وإختار القيام بوظيفة لا تقلُ أهمية، تنم عن روحٍ كبيرةٍ من التفاني والايثار ،فقد توجه بحضوره المعنوي والروحي الكامل ومعه صفوة العلماء من تلاميذه، نحو دعم وتأييد مرجعية (الامام محسن الحكيم) ،وظل يواكب - أولاً بأول- المتغيرات السياسية التي تعصف بالعراق، لا يبتعد عن خطى المرجعية العليا، بل يكمل معها المسير ويتصدى لدرء الشبهات المقصودة هنا وهناك .
وحتى وبعد وفاة (الإمام محسن الحكيم) جاءه بعض المؤمنين وطلبوا منه طبع رسالته العلمية، لأجل تقليده ، فأرجعهم إلى رسالة (الميرزا النائيني) !!
ويوضح اية الله العظمى المرجع ( محمد سعيد الحكيم) هذه الاشارة من لدن (الشيخ) ويقول" ويستفاد من هذا أن بصمات الشيخ الحلي مركّزة على رسالة الميرزا النائيني ، وهي تعبّر عن رأيه ، وإلاّ فما معنى قول الشيخ " ارجعوا إلى رسالة الميرزا" ؟..
ولا غرابة في ذلك ..فشهادة الفقيه( الميرزا النائيني) في حق الشيخ ، وأهمها « أفضلهم » ويقصد أفضل طلابه ،هي شهادة عالية المضامين.
كان الشيخ الحلي دقيقاً في كل المسائل ،و يحمل علوماً جمة ،و روحاً انسانية عالية الهمة ،فالتواضع والزهد ومواساة الاخرين، واعطاء المستحقين والسعي في قضاء حوائج الناس من خصاله المعهودة، وهو مثالٌ يُحتذى به ، وأُسوةٌ طيّبة في الهداية والاقتداء، و من شدّة ورعه واحتياطه، أنّه لم يتصدّ للزعامة الدينية التي كانت تتوجّه إليه، وظل يتهرّب منها، وكم من مرّة دفعها عن نفسه وأسدلَ دونها ثوباً؟..
يُنقل عن بعض العلماء إنه رحمة الله عليه ـ عند ذكر مقام المرجعيّة العامّة وشـروط التقليد في درسه ـ يتطرّق أحيانًا إلى ذكر الرواية المعروفة " وأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِنًا لِنَفْسِهِ، حَافِظًا لِدِينِهِ، مُخَالِفًا عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعًا لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوه " وكثيرًا ما كانت دموعه تتساقط من عينيه عند قراءته لها، ويقول "هذا المقام إنّما يليق بشأن خواصّ السالكين للطريق، الواصلين إلى الحريم الإلهيّ، لا بأمثالي أنا الذي لا خبر له بهذه المقامات ولا معرفة لديه؛ فهذه المقامات لا علاقة لنا بها، بل نحن غرباء عن كنهها وحقيقتها".
لقد تعددت الأدوار التي لعبها (الفقيه الحلي)،في ضروب الفقاهة والحكمة والفلسفة والمعارف العامة، إضافة الى سيرته العملية من الزهد والورع وخدمة الناس ورعاية الفقراء والمساكين، ورغم أنه كان يعاني شظف العيش والعوز الشديد، لكنه يترفع عن قبول أي مساعدة او هدية ،حتى لو كانت من المرجع الأعلى ..فتأمل ، هذه القامة المعطاء، من أي طينةٍ خُلقت؟ وعلى أي سجيةٍ جُبِلَت؟
وأما قصة الغرفة الصغيرة التي كان يستأجرها بالنجف، فهي قصة يهتز لها المؤمن الغيور..حينما يعلم بان هذا الفقيه النادر، كان يعيش في غرفة بلا كهرباء لثلاثة أشهر، لعدم قدرته على سداد أجوره!!!
]
بقيت كلمة للأجيال :إبحثوا عن (صندوق) الشيخ حسين الحلي، الذي كان مليئاً بأوراقٍ وكتاباتٍ لسماحته، جمعها من كتب المادّيين، ليتسنى له دحض حججهم وتفنيد آرائهم بالمنطق والعقل والبحث العلمي الرصين، فهو كنزٌ من المنطق الدقيق في معالجة الإشكالات والشبهات المُثارة، من أصحاب النظرية المادية، بمستوى استاذٍ للمجتهدين والفقهاء..