"فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة او شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق".
أمير الؤمنين، عليه السلام
رغم ما يرتكبه البعض من أخطاء عملية في حياته مصحوبة بآثارهها السيئة، واحياناً الكارثية على محيطه الاجتماعي، فانه يسعى لرسم طريق له نحو الحق، وأن ما يقوم به ليس خطأ، بل أمرٌ لابد منه! وفي خطوة لاحقة، يجد عمله هذا يستوجب مشاركة الآخرين، ثم نقل هذا التصور قسراً الى أذهان الآخرين.هذا الاندفاع الغريزي واللارادي مردّه الى قوة الحق المعنوية في إظفاء المشروعية على أيّ عمل، وفي أي ميدان، من عمل لفرد واحد في المجتمع، الى عمل يرتكبه زعيم دولة، وايضاً بامكانها تهدئة الضمير والمشاعر الداخلية التي نعتقد انها طاهرة ونقية تكوينياً حتى في أعتى الطغاة والجبابرة.
وقد تخبطت البشرية في أمواج الفتن والاضطرابات، فغاصت في حروب طاحنة حتى جاء اليوم الذي يظهر فيه رجل من الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وفي بدايات تكوين الدولة الاسلامية ليكشف عن الطريق السليم والمستقيم الى الحق الذي يعني –فيما يعنيه- الثوابت والالتزامات في القيم والأحكام والقوانين، وهو على النقيض من الباطل المتميّز بتقلبه وتلوّنه وفق قاعدة المنفعة.
وعندما تولّى أمير المؤمنين، عليه السلام، زمام القيادة السياسية، كانت صدمة المسلمين عنيفة باكتشافهم أنهم كانوا يتبعون الباطل طيلة حوالي ربع قرن من الزمن (25 سنة)، فكان عليهم رؤية معالم الحق تتجلّى وتتبلور أمامهم من خلال قراراته ورسائله، ليكون على طريق الانبياء المبتلين بالتنكّر للحقّ، {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}.
إماطة اللثام عن المقاييس الخاطئة
الحديث النبوي المتواتر والمشهور بين عامة المسلمين: "عليٌ مع الحق والحقّ مع علي"، لم يكن مسوغاً لأمير المؤمنين أن يقاتل أحداً من أجل هذا الحق الإلهي، ولم يضحٍ بقطرة دم مسلم، ولا التسبب في يتم او ترمّل امرأة مسلمة، إنما جاء بعد طول فترة، وبعد أوبة الناس الى رشدهم بنسبة معينة واكتشاف خطأهم بالانزلاق نحو الباطل، ليبين لهم بداية؛ سبب ميلهم الى الباطل الذي تسبب في انحراف تاريخ الاسلام كدين وحضارة، ما تزال ارتداداته ماثلة الى اليوم.
في نهج البلاغة نرصد اضاءات منه، عليه السلام، لسببين –من جملة اسباب- الاول: يتعلق بالمجتمع والامة، والثاني: يتعلق بالفرد –الرمز، هذين المقياسين الخاطئين شقّا طريقاً طويلاً في حياة الاجيال ليصل الينا في الوقت الحاضر، فهلّا نتعلم من أمير المؤمنين ما ينجينا مما نحن فيه؟!
الخطأ الأول: صوت الأغلبية
ديدن الحكام وأهل المصلحة والمنفعة البحث عن المساحة الأوسع في المجتمع ممن يصفق ويروّج، ويبرر، وهي المشكلة التي واجهها أمير المؤمنين أول مرة بعد لحظات من رحيل النبي الأكرم الى دار الآخرة، فتحدث الناس الى الصديقة الزهراء، وهي تدور على بيوت المهاجرين والانصار بحثاً عمن ينصر الحق ويفي ببيعته في الغدير، "لو أتانا ابن عمك قبل هذا لكنا وليّناه"، بمعنى أنه لو ترك جثمان النبي مسجّى على الارض ولحق بالسقيفة لاختاروه خليفة!
يبدو أن تجارب وعِبر الأقوام السابقين غابت عن المسلمين، كما غابت عنهم الآيات الكريمة المتحدثة عن تلكم التجارب ومنها؛ قصة طالوت الملك في عهد أحد انبياء بني اسرائيل، عندما اختبر افراد جيشه قبل القتال بشرب غرفة واحدة من الماء لا أكثر مع حالة العطش الشديد التي اصابتهم وسط الصحراء، فلم يطع اكثرهم، سوى عدد قليل، ولما عبروا النهر وتم طرد العصاة، بدأ التشكيك بقدرة القلّة بتحقيق النصر على جيش جالوت الجرار، قال أحد المؤمنين بما عبّر عنه القرآن الكريم: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وهذه واحدة من دروس كثيرة من التاريخ تثبت أن الحق ليس مع الكثرة، وإنما مع طاعة القيادة الربانية، والإيمان والإرادة والعزيمة.
قدرة القلّة على تحقيق العظائم ليس من السهل الاقتناع به من قبل عامة الناس، كما حصل في قصة الملك طالوت، وجميع الانبياء والمرسلين في طريقهم لنشر التوحيد وقيم الحق بين البشرية، بسبب الامكانات الهائلة بيد الحكام والجبابرة امثال فرعون، من مال وسلاح، وحتى تسخير العلم والعلماء، وهذا من شأنه خلق حالة من القلق وعدم الثقة في النفوس، وهو ما عالجه أمير المؤمنين بكلامه البليغ والمدوي: "أيها الناس! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل. ايها الناس! إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}". (الخطبة201).
نعم؛ الكثرة والتلاحم بين صفوف الأمة من عوامل القوة والمَنعة، ولكن! في طريق الهدى والحق، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، وليس في طريق الإغواء والتضليل الذي طالما وقعت فيه الشعوب فخسرت أمنها وقدراتها وكرامتها.
الخطأ الثاني: الرمزية الصنمية
جاء الحارث بن حَوْط الى أمير المؤمنين وهو سائر مواجهة الناكثين (طلحة والزبير وعائشة) وقال: أتراني أظن اصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال له الإمام: يا حارث! إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحِرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه، فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر. فقال له الإمام: إن سعدا وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل. (الحكمة : 259).
إن أول مرديات الرمزية الصنمية؛ حرية الفكر، فهي تلغي الإيمان بالعلم والمعرفة، وتستبدله بما هو أقل جهداً لافراد المجتمع، ثم توكيل القرارات المصيرية الى الكبير والوجيه بأي صفة كان، وقد حذر، عليه السلام، مما وقع فيه الأقوام البشرية في عهد الانبياء والمرسلين، وهو صنو القرآن الكريم، يذكر المسلمون في عهده بأننا "كنا مع رسول الله نقتل آباءنا وإخواننا وأعمامنا وما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليما"، (الخطبة 56).
ولعلنا نفسر ابتعاد أمير المؤمنين عن الساحة السياسية في عهد الثلاثة –من جملة عِلل- في سعيه تربية الناس على تحكيم الفكر والتأمّل والتحقق للوصول الى جادة الحق، وإلا فانه لن يأت جاهزاً من أناس همهم السلطة والامتيازات والجاه والمال.
مسؤوليتنا اتجاه الحق
بعد أن عرفنا معالم الحق وكيفية الوصول اليه، يجدر بنا في مرحلة لاحقة تحديد مسؤوليتنا إزاءه:
1- البحث عن الحق وأهله مهما كان الثمن، ومن الطبيعي في ظل الصراع على السلطة أن يكون الوقوف الى جانب أهل الحق محفوفٌ بالمخاطر والخسائر، بيد أن تجارب الماضين تؤكد لنا أن الامر يستحق ذلك.
2- الالتزام بقيم الحق، وهنا يأتي دور الاختبار العملي للجزئيات، ومن قيم الحق؛ العدل، والحرية، فالمجتمع الذي يرعى العدل في تعاملاته لن يجرؤ الحكام، مهما كانوا على التلاعب بمصيره ومقدراته، والعكس يأتي بالنتيجة العكسية، وقد كشف أمير المؤمنين عن هذه الحقيقة: "فإن في العدل سِعَة، فمن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق".
3- التطبيق العملي في الحياة، حيث يكرّس الانسان حياته من أجل إحقاق الحق ومحاربة الباطل في كل صغيرة وكبيرة حتى تتحول الى ثقافة عامة.
وفي حديث مروي عنه، عليه السلام: " "فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة او شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق".
للكاتب - محمد علي جواد تقي
تعليق