لاحظت منذ أمد وجيز، تعاسة قاتمة تعتريني، وتحدّ من نشاطي بل تقلل من تفاعلي مع المحيط.
وجدت أن شيئا باسم السعادة تلاشى، وتكاثف الغبار عليه، فأنا عهدت نفسي القديمة ملأى بهذا المفهوم الغائب. وربما آخر مرة كنت سعيدًا بها منذ شهر أو شهرين تقريبا لا أتذكر بالضبط.
يا إلهي، حقا نسيت!
لا ادري ما هو الشيء الذي انا بعوز اليه، بعوز شديد، وبدونه حياتي مغلفة بالكآبة، مدفونة تحت انقاضها البائسة.
فحياتي جميلة، استيقظ يوميا على وجه زوجتي الجميل، وعلى لسانها العذب، ثم انغمر بوجود أولادي المشاكسين اللاهين والطروبين في الوقت ذاته عندما ارجع من عملي، أجل فلديّ وظيفة اكسب خلالها مرتبًا يجعلني واسرتي في عيش شبه مستغنٍ.
وأيضا لديّ بعض التفاصيل ورغم رتابتها الا انها كفيلة بإسعادي يعني كشرب القهوة الساخنة كل صباح مع أعزّ اصحابي، والصلاة، ثم تناول الوجبات بأطباقي المفضلة مع أسرتي والأصدقاء، ومشاهدة التلفاز أو لعب لعبة أو إرسال رسالة وتلقيها يجعلني على الأقل أساير الحياة وأتماشى مع متغيراتها وتباين أسسها ومقتضياتها بل حتى مبادئها وأعرافها المتغيرة في كل يوم، والآخذة تارة بالانحطاط واخرى بالازدهار.
أنا أعي التفكك في كلّ شيء بصورة أو بأخرى بمجراه الطبيعي او غير العادي، يعني مثلا التفكك في العلاقات أيا كانت أجدها وأراها بصورة بسيطة يمكن لأي احد يحمل نظرتي وتفكيري أن يقبل بما أتحدث عنه بل ويشاطرني هذا الرأي.
فالعلاقات تسير بأطوار متسلسلة من توقدها الى فتورها.
وعلى سبيل المثال، علاقتي بصديق قديم، وكانت تجربتي الأولى في تكوين صداقة كانت مؤثرة للغاية وصادقة بعمق.
في ذلك الوقت، كنت أعتقد متيقنا اننا اصدقاء مثاليون يضرب بنا المثل ويُحتذى بنا كقدوة، وبعد مرور أمد لا ادري كم هو سنة او كم شهر بدأت الخلافات تدبّ الينا وتتخلل احاديثنا، انا اقصد ذلك حقا فقد استلبت منا ذلك الشعور الوطيد بالترابط كصديقين منذ أعوام.
ولما ثبت الى نفسي وجدت ان لا شيء من هذا حقيقي، لا شيء.
حسنا وأنا أسرد هذا كله، أجدني بعوز شديد الى معرفة ماذا حقا ينقصني؟!
فحتى ذاك الصديق الحميم قد غادر تفكيري بعد فتحي له باب حياتي ليخرج منها الى الأبد. وأنا ذو قناعة انه ليس السبب في هذه التعاسة؛ لأننا افترقنا منذ امد طويل، طويل جدا.
اما هذه التعاسة المتجذرة في كياني، والمغصوصنة في اجزائي، أنشأت لها شجيرات مما يتفرق منها: كالشؤم والتطير والحزن والكدر و.. و.. لست اتنبه لأخواتها الاخريات الكثار اللاتي من نفس سلالتها المشؤومة، لابد اني دونت تاريخا لما كانت مجرد بذرة!
تركت هذا كله جانبا؛ لأن حتى التفاصيل الآنفة الذكر اضجرتني وسئمت منها في تردد؛ بسبب شيء أجهله تمام الجهل.
لا اعترف انقاصا مني او جحود على جم النعم اللاتي رزقت بهن حتى الان فأنا شكور على كلها، لكن حتى هذا كله لا يسعدني، لا يفرحني، لا يفضي اليّ بما أنشده من راحة، بما أطلبه من سكينة.
انا أعترف وأتذكر بقليل من كر في ذاكرتي التي اطلقتها علّي اقف على ما ارزأ تحت ثقل ابتئاسه، فقمت الى ملاحظاتي التي اعتدت تدوين ما انا بصدد الشروع في تنفيذه خلال النهار.
فلم اجد غير اعمالٍ يومية وبلاهات اقوم على تنفيذها خلال العمل او المنزل ورزمة ارقام مدفوعة ومتوقفة: كدفع الفواتير، لا اجد ايا منها يدعو نفسي للحزن او ينكد عليّ عيشي.
المهم، آه، اغتصبت مني شيئا من تفاؤل بمماطلة وقمت بخطى ثقيلة اتحسب تاريخا ما على الرزنامة السنوية فلقد اشرت عليها الكثير من التواريخ الجميلة لرحلاتي وزياراتي ولقائي الاول بزوجتي.. و.. كثير!
استوقفني ذهول مباغت، هنا دائرة حمراء حوطت الخامس والعشرين من آب ما الأمر؟ لا ادري من فعل ذلك؛ لأنه لم يكن هناك حدث مهم يستوجب تدوينه والرجوع اليه لاحقا!
صحت سائلًا: ايمكن ان يجيبني احد، ما هو حدث هذا التاريخ على الرزنامة؟
هتفت زوجتي: لا، لم يحدث شيء لابد انها لعبة من الأطفال!
تجمع اولادي وكان احدهم وجل خائف يختبئ خلف اخوته رغم انه اطول منهم، قلت بردة فعل ساخطة وغير مقصودة: غبي، انت تلفت انتباهي!
قال بلهجة خالية من اي تلعثم رغم تشوشه وارتباكه وهروب عينيه: اتسمح لي ان اهمس في اذنيك؟
دنا مني غير منتظر اي ردّ، فملت برأسي ثم انحنيت لأداني فمه، شعرت حينها بحرارة تتلقفني، تغدو وتروح على وجهي.
شرع يقول بهمس: انت من اشرت على هذا التاريخ عندما طردت جدي فمات خارج المنزل.
ارتعشت ودارت الارض بي، تمايلت فاقدا اتزاني، اذن ما كان يطاردني هو الضمير المحتبس الذي انبجس في وقت واحد جامعا كل اسواطه ضاربا ظهري، حسنا ثبت إلى رشدي وادركني الضمير البطيء، ولكن بوقت متأخر... متأخر للغاية.