عندما يرد ذكر السيدة الطاهر خديجة الكبرى (عليها السلام) سرعان ما ترتسم في أذهاننا ملامح السيدة القرشية التي لعبت دورًا محوريًّا في انجاح الدعوة الاسلامية، وكانت إحدى الركائز المهمة لتبليغ الوحي الإلهي، فاقترن اسمها بأسماء لامعة في سماء التبليغ الرسالي: كأبي طالب مؤمن قريش، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، فكيف تأتى لهذه السيدة العظيمة في ذلك الزمان الصعب، أن تصبح في معرض الجذب الالهي ليختارها الله سبحانه، ناصرة لدينه الحنيف، وسندًا لنبيه الخاتم! يقول الحق سبحانه: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» [الإنسان/3].
إذا كان الانسان مجبورًا على شيء، فإنه مجبور على الاختيار، وقد اختارت السيدة خديجة كسر أطواق الجهل والكفر والإلحاد التي كانت تحاصر أهل مكة يوم ذاك، عبر التزامها بدين التوحيد الحنيفي الابراهيمي وهو دين آبائها وأجدادها. خاضت غمار التجارة، وهي تضارب بأموالها مع تجار موثوقين، وأعرضت تمامًا عن تجارة الربا التي كانت متفشية بين معظم تجار مكة آنذاك(1).
حفظت للمرأة كرامتها وعزتها بما أظهرته من العقل والحكمة والحزم في إدارة شؤون حياتها، لاسيما المالية منها، وترفعت عن مستنقع الفجور والرذيلة الذي استخف بحرمة المرأة ومكانتها في المجتمع(2).
قبلت الزواج بشاب يتيم فقير الحال؛ لما لمسته عنده من عفة نفس وطهارة الروح وسمو أخلاق، رافضة لعروض الزواج من سادات قريش وكبار تجار مكة.
عُرفت بالسيدة الطاهرة، والسيدة اللبيبة، وسيدة نساء قريش، وحكيمة قريش(3). كانت السيدة خديجة (رضوان الله تعالى عليها) تجاهد وتكابد الصعاب في مواجهة جهالات قريش وخرافاتهم وكفرهم، وهو أمر في غاية الصعوبة قد يعجز عنه الرجال؛ أملًا بظهور المنتظر الموعود، وتحقق دعوة ابراهيم الخليل (عليه السلام): «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ» [البقرة/129]، شأنها في ذلك شأن كل الموحدين في مكة الذين ضاقوا ذرعا بظلم الكفار وجورهم، هي المنتظرة، المتربصة، تتحرى صفات نبي آخر الزمان وأحواله من ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي قرأ الانجيل والتوراة وهو من الأربعة الذين رفضوا عبادة الأوثان، فكان يؤكد لها حتمية ظهوره المبارك في مكة ومن قريش(4).
كانت مؤمنة به، مصدقة لدعواه، مسلمة لإرادته، مستعدة لنصرته قبل الظهور وقبل البعثة، حفظت نفسها ودينها من دنس الأوثان وصانت عفتها وكرامتها، وخالفت نواميس العصر الجاهلي، وركنت الى ما فيه رضا الله سبحانه، غير مبالية بلوم اللائمين وكيد الماكرين، فشكر الله تعالى سعيها الصادق، وهيأ الأسباب لتكون زوجة خاتم الرسل والأنبياء، وذلك قوله سبحانه: «وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا» [الإسراء/19].
فكانت أول امرأة مسلمة تصلي خلف رسول الله (ص) مع وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان يومها غلامًا، فهي من السابقين الأولين: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ {10} أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ {11} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» [الواقعة/12]. إذا يمكن القول وبضرس قاطع أن السيدة خديجة كانت ولا تزال خير قدوة للمرأة في زمن الانتظار، إذ إنها بجرأتها وشجاعتها تحدت أعراف الجاهلية، وأثبتت أن المرأة يمكنها لعب أدوار ريادية هامة في قيادة الأمة، وإقامة الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا ما تسلحت بالتقوى والايمان بالله تعالى، وتحصنت بالعلم النافع؛ تمهيدًا لظهور حجة الله تعالى في أرضه، فكانت نعم المنتظرة العالمة العاملة المجاهدة، ونعم الناصرة المؤيدة الباذلة في سبيل الله؛ نصرة للمستضعفين، وانتقامًا من المستكبرين.
عندما نقرا الجزء الثاني من دعاء الفرج، الجزء الخاص بنا نحن – الداعين - وما نطلبه لأنفسنا من مقامات سنجدها كلها متحققة في هذه السيدة الجليلة القدر (رضوان الله تعالى عليها): «واجعلني من أنصاره وأعوانه والذابّين عنه، والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والمستشهدين بين يديه برحمتك يا أرحم الراحمين» فهنيئا لأمّ المؤمنين تلك المقامات الراقية.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «كنتُ أولَ من أسلَم، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاث حجَج وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه "صلى الله عليه وآله وسلم" بما أتاهُ غيْري، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه وقد فعل»(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيرة ابن هشام: ج، ص١٩٩.
(2) السيرة الحلبية: ص١٣٧.
(3) أسد الغابة: ج٥.
(4) البداية والنهاية: ج٢.
(5) بحار الأنوار: ج١٦.