لم تعد هواجس الخوف من المجهول ماثلة أمامي أو حتى في احساسي، لقد غادرتها للأبد دون أن أبكي على أطلالها. تلك الهواجس التي عشت معها عمرًا طويلًا: الخوف، القنابل، الدمار، الجوع الموت.
هذه مذكراتي منذ عقودٍ مضت وللأسف لا تزال شاخصة لهذه اللحظة، متمثلة بالفأس التي تحطم لوحات الجمال، وبالرصاصة التي تقتل الروح التي منحها الله وهي من أجمل عطايا الله، وبالأقدام المتقزمة التي استباحت حقول الحنطة؛ لتبكي سنابلها الذهبية وتحوّلها لرماد رائحته تشبه كثيرًا رائحة البارود وربما كانت أكثر!
مذكرات إنسان اقترب من العقد الخامس ليس فيها إلّا بقاء لصراخات أمهاتٍ يندبنَ أوصال الأحبة مجموعة في أكياس صغيرة أو قطع من قماش بالية او جزء من بسطال الحرب!
نعم، لا تزال شاخصة أمامي تلك المرأة التي مزقت ثوبها وشطرته إلى نصفين لتقابلها مجموعة النساء المعزيات، وهنَّ يتوزرنَ قماشًا أسود لاطمات الخدود ينبدن بصوت يهتز له الحجر (يوليدي گوم انهض امك غابت عنها الروح).
هكذا كنّا نبكي حين سماع الملاية تتحدث بلسان حال الأمهات والزوجات والبنات والأبناء، فهي ذات كلمات حزينة تبكيك ما إن تسمعها، ولم أنسَ من يذهبون ليبحثوا عن أشلاء أو خبر يعيد لهم الأمل في بقاء ابنهم على قيد الموت المؤجل!
هكذا كانت الأماني وربّما أكثرها مصيبةً حين يتمنى الأب أن يرى ابنه معاقًا ولكنه لديه حياة!
وهكذا استمرت هذه الذكريات لتعانق الدموع ونحن نرى منصات الموت تحصد الأرواح تلو الأرواح دون أن يهتز ضمير العالم ليوقف هذا النزف الكبير؟! حتى أصبحنا نؤمن أننا خُلقنا للموت فقط دون الحياة!
لما شاهدناه ولمسناه وفقدناه من أحبة مليون وربّما أكثر أو أقل منه بقليل من الضحايا والمهجرين والمعدومين على قيد الحياة هذه هي مبررات إيماننا بأننا مخلوقون للموت دون سوانا؟
وما إن رأينا بحبوحة ضوءٍ من بعيد وهي تعكس أملًا جديدًا يلوح في الأفق لنخرج ملايين نفرح ونهتف ونصفق للحياة.
وليتنا لم نثق بهذا الضوء، فما هي إلّا نقطة انفجار حرب جديدة تحصد فيها أرواح البائسين، وكأننا قرابين لهذا البلد دون حتى كلمة شكرٍ أو ثناء بل كنّا نموت دون مقابل، ولاياتنا عبارة عن خرائب وآثار الحروب المتكررة والمقصودة تخيم على حدائقها وجدرانها ومدارسها المتهالكة والطينية منها والطرقات المتخسفة.
لا أدري حقًا هل هذا الجزء من الوطن هو ما يشبه (مثلث برمودا)؟ كل شيء فيه معد للموت فقط لا للحياة، حتى أصبح سرنا كسر ذلك المثلث الذي لم ينج منه أحد.
نحن منعمون بالموت وغيرنا منعمون بالحياة!
لتستمر الذكريات وهي قريبة من العقد الخامس لتكون الأكثر ألمًا وقهرًا حين ندون مذابح لنا تقيم دون أي صوت رافض لها من قبل محيطنا أو العالم الإسلامي، فذبح الإنسان بطريقة بشعة لم تحدث من قبل في التأريخ، اذ يقف القاتل متباهيًا متبجحًا تشجعه اصوات المؤيدين لفعله والتصفيق والتهليل؛ ليندفع دون عقلٍ ليذبح آلاف الضحايا والأبرياء بمشهد مؤلم ودام ومخز لكل من يدّعي الإنسانية بل هي وصمة عار في جبين كل حاكم ارتضى ذبح الإنسان.
يموت الإنسان ليعيش التمثال؟! أي دينٍ هذا؟ وأي منطقٍ يحركهم لمثل هذا الفعل؟ جمعينا من بني الإنسان، لكننا نتقاتل ببشاعة لنبيد بعضنا بعضا تحت مبررات وخرافات وخزعبلات لا تمت للإنسانية بشيء.
ويا لخوفي أن تستمر الذكريات بهذا الدم المباح.