إنّ الحديثَ عن التاريخِ المُشرقِ الوهّاج لآلِ البيت (عليهم السلام) هو من أجملِ ألوانِ الحديث، والكلامُ عن السيرة العطرةِ المُضمخةِ بأريجِ ذكرِهم (سلام الله عليهم) هو من أعذبِ أنواعِ الكلام.
لِم لا، وهم حاملو أسرارِ الشريعةِ المُقدّسةِ وقادةُ الإسلامِ العِظام؟
إنْ دخلَ المؤمنُ ساحةَ حياتِهم ازدادَ يقينًا وتألقًا، واتسعَ أُفُقُ مضمونِه الروحي ورقى. فما أروعَ أنْ نُبحِرَ في بحارِ أنوارِهم، ونطّلِع على مضامينِ سيرتهم، ونغترف من سنا إشراقِهم، ونُحلِّق في سماءِ قُدسِهم؛ لنتخذَ من مواقفِهم ونهجِ حياتِهم زادًا لنا في الحياة، نصلُ به ومن خلالِه إلى حيث السعادةِ الدائمة والنجاة.
وهنا سنأخذُكم في رحلةٍ إلى يومٍ من أيامِ مولانا موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)؛ علّنا نقتبسُ شيئًا من ضيائه وهديه النابض بالحُبِّ والعطاءِ والسلامِ، فنتحركُ على بيّنةٍ، بنفوسٍ تتطّلعُ إلى الخيرِ مؤمنة، مُتخذةً من آلِ البيتِ (عليهم السلام) في السعي والكدحِ أسوةً وقدوةً حسنة.
سنأخذكم إلى يومٍ حافلٍ باللُطفِ والرحمة؛ لنتعلّمَ فيه شيئًا من إمامِنا الكاظم (عليه السلام) سليلِ ساداتِ الخلقِ ومنار الأمة؛ لنستلهمَ منه كيفَ ينبغي أنْ نكونَ مع أصحابِ الذنوبِ والمعاصي الذين غرقوا في وحلِ السيئاتِ وحلكتِها المُظلمة.
سنأخذُكم إلى يومٍ كتبَ اللهُ (تعالى) فيه لبِشرٍ البُشرى والخير، على يدِ راهبِ آلِ محمد (عليه وعليهم السلام).
في ذلك اليومِ كانَ الإمامُ الكاظم (عليه السلام) يجتازُ زُقاقًا يعيشُ بعضُ أهلِه الغفلةَ والفتنةَ والظلام، ولا عجبَ؛ فقد ضاعتْ تعاليمُ الإسلام، وتلاشتْ مواعظُ الأنبياءِ بعدما استأثرَ بالحُكمِ على مدارِ الأعوامِ طغاةٌ لئام، بثّوا أكاذيبَهم بعدَ أنْ قاموا بتنحيةِ أهلِ البيت (عليهم السلام) عن مقاماتِهم، وأمعنوا في إذلالِهم وقهرِهم وسجنِهم وتعذيبِهم، بل وعمدوا إلى تنشئةِ الأجيالِ على بُغضِهم، والتفاخُرِ بسبِّهم ولعنِهم على منابرِ جُمعتهم، حتى هرِمَ على ذلك الكبير وكبُرَ الصغير.
ولكن رغم كُلِّ ذلك فقد كانَ لهم (سلام الله عليهم) نورُهم وحضورُهم المُمتدُّ امتدادَ الرسالةِ وضيائها المُنير؛ فما حضروا في مكانٍ إلا وتألّقَ بالنور، وما احتواهم زمانٌ إلا وكانوا للأرواحِ غيثًا رحمةً واسعةً تمحو بتدفُقِها ما رانَ على الصدور، وتُعيدُ للنفوسِ المُستعدةِ بريقَها الذي فقدتْه في صراعِها مع النفسِ والشيطان، وكأنّها شلالُ ضوءٍ يُنيرُ العُتمةَ ويغسلُ الأرواحَ بماءٍ طيّبٍ طهور، بإذنِ الودودِ الغفور.
وهذا ما حصلَ مع بشرِ الذي كانَ بعيدًا عن الله (تعالى) ونهجِ الإسلام، ولكن شاءَ (سبحانه) أنْ يضعَ في طريقِه عبدَه الصالحَ موسى بن جعفر (عليه السلام).
كانَ إمامُنا (صلوات الله عليه) يمرُّ قريبًا من دارِ بشر، وتناهى إلى سمعِه صوتُ الغناءِ والطربِ المُعرِبُ عن الانحرافِ المُر، وبينما هو يقطعُ الطريقَ مُتأسِّفًا وإذا ببابِ ذلك البيت فُتِحتْ، وخرجتْ جاريةٌ تحملُ بيديها القُمامة، فتأمّلتْ في رجلٍ عليه سيماءُ الصالحين وتسطعُ من جبينِه أنوارُ الإمامة. وقفَ (سلام الله عليه) عندَ البابِ ليسألَها سؤالًا كُتِبَ له أنْ يُغيّرَ حياةَ بشرٍ ويكونَ للمُتأمّلين على امتدادِ الزمنِ منارًا وعلامة.
قال فدته النفوس:
- يا جاريةُ! صاحبُ هذه الدارِ حُرٌّ أم عبد؟
فأجابته على الفور:
- بل هو حُرّ.
فهمسَ بصوتٍ يشوبُه حُزنٌ وألمٌ:
- صدقتِ؛ لو كانَ عبدًا لله تعالى لخاف من مولاه!
ومضى الإمامُ (عليه السلام) في طريقِه بخطواتٍ هادئات، فيما بقيتِ الجاريةُ تنظرُ مذهولةً وهي تُحاولُ فكَّ رموزٍ تلك الكلمات، وما تنطوي عليها من أسرارٍ وأُحجيات.
دخلتِ الجاريةُ الدارَ على حالتِها؛ لتقُصَّ على سيّدِها ما جرى معها، وكما يضربُ الزلزالُ الأرضَ فتتناثرُ ذرّاتُ التراب، كانتْ هذه الكلماتُ تُطيحُ في أعماقِ بشرٍ كُلَّ الصروحِ المُظلمةِ فأسرعَ مُهرولًا نحو الباب...
مضى يطوي المسافاتِ باحثًا عن مصدرِ النورِ والضياء، يبحثُ عن رجلٍ يحملُ همومَ المُرسلين وتراثَ الأنبياء، ها هو يراه من بعيدٍ كأنّه غيثُ السماءِ للأرضِ التي أضرَّ بها الجدبُ وحنّتْ إلى هطولِ المطر وقطراتِ الماء. توقّفَ الإمامُ (عليه السلام) ليرى بشرًا وقد غرقَ بدموعِه، جثا الحافي عندَ قدمي الإمامِ (عليه السلام) وأبدى كاملَ احترامِه وخضوعه، وكانتْ آهاتُه وعبراتُه تُترجِمُ ما حلَّ بقلبِه من تغيير، وتتكلّمُ دونَ حروفٍ لتُعرِبَ عن امتنانِها لهديةِ الربِّ القدير، الذي بعثَ له بوليّه ليُنقذَه من حَرِّ السعير، ويأخذَ بيدِه إلى محالِّ الخيرِ وينابيعِ النور.
مدَّ الإمامُ (عليه السلام) يدَه ليمسحَ على رأسِ العائدِ إلى رحابِ اللهِ (تعالى) بعدَ طولِ صدود، وبيّنَ له كيفَ يُمكِنُ أنْ يستقيمَ فلا ينحرف مُجدّدًا ولا يعود إلى منكرٍ حتى يوم الورود.
كانَ بشرٌ قد فتحَ مسامعَ قلبِه لتلقّي هذا الفيضِ العظيم، كانتْ دموعُه تجري بحُرقةٍ أسفًا واعترافًا في محضرِ الربِّ الكريم، فأطفأتْ دموعُ الندمِ نيرانَ الابتعادِ عن ساحةِ اللُطفِ الإلهي، وفتحتْ نوافذَ النورِ في قلبِ ذلك العبدِ لتُحوِّله إلى تائبٍ تقي!
نعم، لقد تحوّلَ حالُه فصارَ من أهلِ الإيمانِ، واشتهرَ بالزُهدِ والعبادةِ والإحسان، ببركةِ الإمام الكاظم (عليه سلام) وألطافِ المنّان.
والآنَ دعونا نقفُ هُنا لنتعلّمَ دروسًا مهمة، تُعيننا في حياتِنا وفي أداءِ رسالتنا:
الدرسُ الأول:
إنّ الدعوةَ إلى اللهِ (تعالى) والدلالةَ عليه هي من أشرفِ الأعمالِ وأفضلِها، وإنّ النصيحةَ لخلقِه وهدايتَهم من أزكى الأفعالِ وأجلِّها، فلا بُدّ لمن أرادَ أنْ ينصرَ دينَه ويُمهِّدَ الأرضَ لقيامِ إمامِ زمانِه أن لا يغفلَ عنها ما استطاعَ إلى ذلك سبيلًا.
الدرسُ الثاني:
عدمُ التعلُّلِ بالأعذارِ والاستمرارِ في هدايةِ الناسِ ونصحِهم مهما كانتْ حالُهم، فالإمامُ (عليه السلام) لم يتركْ ذلك رغمَ القرائنِ التي تؤكِّدُ على ضلالِ صاحبِ الدارِ وسوءِ ما وصلَ إليه حالُه!
الدرسُ الثالث:
عدمُ اليأسِ والإحباطُ من استشراءِ الضلالةِ والانحرافِ، فالسعيُ من نصيبِ العبدِ والتوفيقُ بيدِ اللهِ (تعالى)؛ لذلك لا بُدّ أنْ نواجهَ الواقعَ مهما كانَ سيئًا غارقًا في الوحل، مُتسلّحين بالأملِ ومُتكلين على الله (عزّ وجل).
الدرسُ الرابع:
أسلوبُ العلاجِ الرائعِ الذي استخدمَه الإمامُ (سلام الله عليه) مع الجاريةِ؛ فلم ينكّلْ ولم يستهزئ ولم يُسئ، بل كانَ كلامُه مُختصرًا مُفعمًا بالمعاني الرائعةِ التي لا يختلفُ فيها اثنان، فالعبدُ لا ريبَ يستحيي من مولاه ويخافُه ويخشاه، وإلا فعليه أنْ يعودَ إلى نفسِه ويتأكّدَ من صِدقِ دعواه.
الدرسُ الخامس:
نتعلّمُه من بِشرِ الذي تخلّى عن عالمِه الذي ألِفَه لسنوات، واختارَ طريقَه بوعي بعدَما أبصرَ فيه الألطافَ والرحمات، وكأنّه يقولُ لنا: لا يأس ولا قنوط ولا ضياع، مهما افترستكم في طريقِ الضلالِ الضباع، فالربُّ الكريمُ يفتحُ الآفاقَ لمن أتاه، ويمحو عنه ما أبعدَه وأرداه، فهو اللهُ ويكفي بأنّه الله.