يعدّ العقل والدماغ من عجائب خلق الله في الإنسان، فتحفيزه يجلب لنا الخير والصلاح، وتجميده يجلب لنا الشر والخذلان، والعقل مصطلح يستعمل أكثر الأحيان للتعبير ووصف جميع وظائف الدماغ البشري العليا، وخاصة الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعيا: كالجدل والتفكير والذكاء والتحليل وجميع الانفعالات العاطفية التي يتعرض لها، التي تعدّ وفق آراء بعض الباحثين بأنها منسوبة للعقل، فالعقل هي كلمة معنوية تعني القدرة على التفكير.
أما الدماغ، فهو مصطلح مادي يتمثل بالمحتوى الموجود داخل الجمجمة، ويشتمل على المخ والمخيخ وجذع الدماغ، حيث يتكون الدماغ من (80%) من الماء، والباقي منه عبارة عن دهون.
وزنه يبلغ (1400)غرام، ويشتمل الدماغ على عدد من الخلايا العصبية تتراوح بين مئة ومئة وخمسين مليار خلية عصبية، كلّ خلية عصبية تحتوي على أكثر من (60) ألفا من التشابكات العصبية، حيث أنه بالإمكان ارتباط هذه الخلايا العصبية بأكثر من (100) ألف خلية عصبية أخرى، وكل خلية عصبية تحتوي على السايتوبلازم والنواة مثل: باقي خلايا جسم الإنسان بشكل عام، وهي محاطة بغلاف خلوي مع ذلك فهي تختلف عن باقي خلايا جسم الإنسان بشكل جوهري؛ لأن خلايا الدماغ لا تخضع لقوانين الاستهلاك، حيث إن كلّ مستهلك لا بديل له.
تنتقل السيالة العصبية أو النبض العصبي وهو الرسائل التي تنقلها الأعصاب من أعضاء الحسّ (أجهزة الاستقبال) إلى الجهاز العصبي المركزي، ومن الجهاز المركزي إلى أعضاء الاستجابة.
وتتم عملية النقل إمّا بواسطة كهربائية أو عن طريق التفاعلات الكيماوية بين الأعصاب، تقدر سرعة السيال العصبي في الأعصاب بـ(120)متراً في الثانية، أي ما يعادل (432)كم في الساعة، فتنتقل السيال العصبي بين دماغ الإنسان من خلايا خمسين مادة كيمائية وبسرعة تفوق سرعة الضوء.
فالدماغ البشري لديه القدرة على تخزين أكثر من مليوني معلومة في الثانية؛ وذلك من خلال اللاوعي.
أما بالنسبة للعقل الواعي، فإنه لا يستطيع التركيز لأكثر من تسع معلومات في المرة الواحدة، وإن لم تحفظ فإنها تُنسى.
فسبحان الله خالق هذين المخلوقين العجيبين فينا، ونحن غير مطلعين ولا مكترثين وغير مستوعبين لأعاجيب خلق الله فينا، التي تدلّ على عظمة الخالق سبحانه وتعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...» [فصلت/53].
ويعتقد العامة من الناس أنه لا فرق بين العقل والدماغ، وأنهما لا يختلفان، والسبب في ذلك الاعتقاد هو أن الأغلبية منهم لم يتعمّقوا في البحث والمعرفة؛ ليروا إن كان هناك فرق أم لا.
ومما تقدم، يتبيّن وجود فرق شاسع بينهما، وإن مفهوم كلّ منهما يختلف عن الآخر اختلافا كليا.
فمن خلال ما وضحناه في البداية من تعريف كلّ منهما، أصبحت لدينا القدرة على معرفة الفرق بينهما، وأنهما يختلفان اختلافًا كبيرًا، وليس كما اعتقده الكثيرون من عدم الفرق بينهما، ولا وجود لاختلاف في كلّ منهما.
إذن، فالعقل حسب ما فهمنا وما تعرفنا عليه هو من يتخذ القرار، والمخ الذي هو جزء من الدماغ المنفذ لهذه القرارات سواء كانت المصيرية او غير المصيرية.
ولأن العقل هو من يقرر وله القدر على التركيز، سنسلط الضوء عليه أكثر، فالعقل خلق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، أوجده في رأس هذا الكائن الحي (الإنسان) الذي جعله خليفة على الأرض؛ ليتفكر ويعي بخلقه كيف خلق من طين لازب (التراب المخلوط بالماء)، وفي السماء كيف رُفعت بلا عمد، والأرض كيف سُطحت، وليفهم أنه لم يُخلق عبثا، وأنه مأمور بإطاعة أوامر الخالق (جلّ وعلا) وعليه السمع والطاعة دون تمرد وعصيان له سبحانه وتعالى.
فلم يجعل الله تعالى له عقلا حتى يعيش في هذه الحياة الدنيا عبثا، وإنما خلقه وكرّمه ومنحه هذا المخلوق العظيم (العقل) بقدراته دون سائر الكائنات؛ ليتدبر ويفكر به ويعقل ويسير بمرضاة الله (جل وعلا)، لا أن يشلّ حركته ويجمّده بكلّ تفاصيله، ويتركه للشيطان يعبث به ويحرفه عن طريق الحق والصراط المستقيم الذي أراده الله تعالى منه.
فبالعقل يستطيع الإنسان عمل المعجزات، فيستطيع أن يجعل من المستحيل لا مستحيل، ومن اللاشيء أشياء مهمة ومفيدة له وللمجتمع.
فالخالق (جلّ وعلا) عندما منحه العقل وميّزه به عن سائر مخلوقاته، أراد منه استخدامه الاستخدام الصحيح والأمثل، بتحفيزه على التفكّر والتدبّر في خلقه، وأمور أخرى تخصّ حياته.
فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) أنه قال لهشام: «يا هشام، إن لله على الناس حجتين حجه ظاهرة وحجه باطنة، أما الظاهرة فالرسل والأنبياء، وأما الباطنة فالعقول».
فنعمة العقل هي من أعظم النعم التي أنعمها الله (عز وجل) على الإنسان لما تميّزه عن سائر المخلوقات، وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: «لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل».
وقد مدح الله (عز وجل) أصحاب العقول في كتابه الكريم في مواضع عديدة حيث بشّرهم بمصيرهم الطيب حيث قال: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ» [سورة الزمر: 18].
أي أن أصحاب العقول الذين استطاعوا توظيف عقولهم لمصلحتهم ومصلحة مجتمعهم وفائدتهم في الدنيا والآخرة، حيث استمعوا لأوامره وأطاعوها وانتهوا لنواهيه وتركوها، وكانت النتيجة رضي الله عنهم وبشّرهم بالجنة خالدين فيها أبدًا.
وعلى نقيض ذلك، فقد ذمّ الله (جلّ وعلا) الذين لا يتفكرون ولا يعقلون ولا يحركون عقولهم تاركينها مستنقعا للشيطان يسرح فيها ويمرح كيفما شاء، كما جاء في قوله تعالى: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» [سورة الأنفال: 22]، مع أن الله سبحانه وتعالى منحهم العقل ليفكروا ويعقلوا ويتوكلوا عليه، ولكنهم جمدوا عقولهم، فسقطوا بين أحضان الشيطان، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضلّ.
ذات يوم قدم للمدينة رجل نصراني من أهل نجران، وكان فيه بيان وله وقار، فقيل: يا رسول الله، ما أعقل هذا النصراني؟!
فزجر رسول الله(ص) القائل وقال: «مه، إن العاقل من وحّد الله (عز وجل)، وعمل بطاعته»، أي بعقله، بتوحيد الله وطاعته، وليس بما يرتديه.
وفي النهاية، لنعطي لأنفسنا الحرية في اتخاذ القرارات المصيرية دون تدخل من أحد، وأن نعطي لعقولنا مساحة من التفكر والتمعّن لاختيار القرار الصحيح، فعقولنا هي من ستحدد لنا مسارنا إن كنّا على الطريق المستقيم أم لا.
وأن لا نجمّد هذا العقل الذي منحه الله لنا، ونسير في هذه الحياة الدنيا كالبهائم مع هذا وذاك دون تحكيم العقل ومشاورته في اختيار الأشخاص المقربين، فإن رأى العقل أن ذلك الشخص غير صالح، وتمّ تمييزه من خلال أعماله المتناقضة وغير المرضية للعقل، نتركه، وإن كنا أحببناه أو تعاطفنا معه، فأعماله السيئة تحتّم علينا تركه، فملازمته خسارة لنا في الدنيا والآخرة.
فكل إنسان أعماله الصالحة او السيئة هي من تدلّ عليه، وتجعله محبوبًا أو مكروهًا بين الناس، وتجعلنا نختار بالعقل السوي الشخص الصالح والمتزن دون شك.