تويت
لاشك أن التأريخ ليس برنامجا إذاعيا لنطلب منه ما نريد، وإلا سنكون انتقائيين وبامتياز؛ لأنّ معظم أحداث التأريخ كما نعرف قد طالتها يد التدليس، وفيه من المواقف والظواهر والحكايا المكذوبة ما تشيب منه الولدان.
فكيف أتعامل مع هذا التأريخ الذي امتلأت صفحاته بالغث والسمين من الروايات؟ هل أضرب عنه صفحا ولا أتعامل معه بالمرة، وأقول: انا ابن هذا العصر ولا علاقة لي بمن مضى، ومن أتى، ومن قدّم ومن أخّر؟ أم أتعامل بطريقة انتقائية آخذ ما اريد، وأترك ما لا اريد بمزاجية مطلقة؟
على الكاتب أن يتعامل مع أحداث التأريخ كما هي ودون تزوير، والأهم من كل هذا الاستفادة منه بأخذ العبرة لاستشراف المستقبل.
أتذكر انني كتبت مرة عن التأريخ وغلفته بغلاف ناصح؛ كي أوقف تسارع الخطى لأدلجة الأحداث، ومنع اسقاطاتها على حاضر الأمة، والدعوة الى عقلنة التأريخ دون المساس بثوابت الدين والعقيدة.
قلتُ في تلك النصيحة: دعونا لا نتّكل كثيرا على ماضٍ مرّ مُثقلا بأخطائه، ومتعثرا بتضاريس أرضه، اتركوا الخلافات مدفونة مع أصحابها، سجالاتهم، خصوماتهم، حروبهم الطاحنة، وكل ما لوّن آفاقهم، غيبّوها جميعا في جبّ عميقة ما له من قرار، وافسحوا لنا متنفسا جديدا نشمّ من خلاله عبقا رائقا ننعش به أيامنا الحاضرة.
لا بأس أن نتخذ العبرة من الماضين؛ فالعبرة تولد البصيرة؛ كي نتجاوز بها مطبّات الطرق المتعرجة، ولكن دون أن نتّكل على ما عايشوه من حياة تخصهم لوحدهم، فلا تغلوا ولا توغلوا في العمق فتجرفكم التيارات وأنتم لا تشعرون، ها هو القرآن يجهر بالقول الفصل: «تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».
دعوا التأريخ نائما في بطون أمهات الكتب، لا توقظوه؛ لأن شلالات الدم المنسكبة في أوديتنا، لم تكن لتحدث لولا قراءاتكم الخاطئة لذلك التأريخ، فدعوه لا توقظوه، ولنكسر العود وكل سمفونيات التغني بالماضي المجيد.
أما حاضرنا، فلنبنيه معا برؤىً جديدة تناسب زماننا، وليس بالنوايا الطيبة فحسب، فالحياة الحرة الكريمة تستحق تضافر كل الجهود لبنائها وارساء قواعدها. ولنقف جميعا على أرض صلبة، ولننظر نحو المستقبل وآفاقه بعيون مِلْؤها الأمل، وبغدٍ أكثر إشراقا وأكثر تمدّنا.