الشاعر كفاح وتوت خريج فنون سينمائية، ولديه اختصاص بالصورة الشعرية وصياغتها ضمن حراكها التعبيري بتشكيل الصورة القادرة على مخاطبة الفكرة والشعور والذائقة الجمالية، وطرح الواقع عبر رؤى فكرية تصوغ الواقع الحلمي المتخيل أو الانطباعية السريالية.
وأرى مثل هذه الشعرية تكون قصدية فاعلة، تتحرك ضمن إمكانات لها القدرة على توظيف الرؤية، والقصيدة عند الشاعر (كفاح وتوت) عبارة عن ومضات شعرية بأشكال مختلفة تعبر عن جديد الشعر وعن جوهره وجوهر وجوده المعبر عن روح العصر.
صورة شعرية بتراكيب موحية الى تعددية القراءة لتشكل القصيدة في مجموعة (لا أكتفي بهذا الشجر)، تركيب حرّ متعدد الاشتغالات، وكل قصيدة لها العديد من الومضات، وترتكز على الإيحاء والتكثيف والتضاد والمفارقة والانزياح، اشعر بأنه يصور القصيدة سينمائيا، لقطات سريعة منتثرة يجمعها المضمون الكلي للقصيدة، ففي قصيدة (بقايا زجاج) لقطة سريعة:
«الشناشيل المطلة على الجنة ملونة كقوس قزح، والبيت كقلب أم، أطنان من الطيبة في القلب، وفي الأزقة كان الجدار يقبّل الجدار»، فجأة ينتقل الى ومضة تكشف قدرات المتلقي على الكشف عن الدلالة العميقة في قلب الومضة:
«الذين يتسلقون باسقات النخيل، لم يملؤوا السلال بالتمر، يتهافتون على الجمار»ص8.
لإيحاءات النص مساحة فكرية شكلت حضورا ذهنيا بما تمتلكه من سرعة تؤثر على ذائقة المتلقي، والصور الشعرية التي ارتكز عليها الشاعر قائمة على انطباعات عدة، تجتمع في رحبة المضمون؛ لتشكل عمقا نصيا ايحائيا متوهجا:
«الوقت قصير، لكن يده طويلة، ركام من الساعات، على الارصفة وفي العربات، على الجدران، على المناضد وفي الأبراج العالية، في الساحات، في المآذن في الفضائيات المسموعة والمرئية في الأجهزة النقالة، في الحاسبات، ومع قنبلة موقوتة، للزينة نقتني الساعات»ص11.
جمالية هذه القصائد المكثفة أن لها معاني تتجاوز ألفاظها، لكل جملة معنى ظاهري، والخاتل في أردية التأويل أجمل، تجعل من فسحة تأويلها مساحة فكرية للرؤية والرؤيا، يحتاج المتلقي إلى ذهنية متوقدة تقرأ البعد الدلالي المجازي:
«في قصيدة الورد»، «حتما اذا أهملت الورد، ستذبل أنت».
القضية عند الشاعر (كفاح وتوت) ليست قضية ومضة لنعرّف معنى الومض، القضية عندما تكون القصيدة كلها عبارة عن ومضات متفرقة مجتمعة المضمون؛ لتصب في منهل القصيدة، وبمعنى متناسق، هنا ستكون العملية أكثر صعوبة، بؤرة شعرية تجمع هذه الومضات في قصيدة، هذا التشكيل يعيدنا إلى معنى أن يكون خريج الفنون السينمائية شاعرا، الومضة تعبير عن لحظة انفعالية تأملية، وقصائد الشاعر (كفاح وتوت) تأخذ شكل الفلم السينمائي، مشهد يكمل مشهدا، ومشاهد متفردة تكوّن لنا المشهد الكلي للعرض.
هذا المسعى الجبار يحوّل الخطابة الى إيحاء، حتى المطالب الوعظية تنبثق بموقف يأتي إثر توعية شعورية، صورة غالبا ما تكون على شكل عصف يوقظ متلقيه:
«هم الصغار دائما، من يبعثر الورد في الحدائق»ص17.
أنا كقارئ لست معنيا بالنقد؛ كوني صرت كلما أدخل قصيدة من قصائده أتابع الفتيل؛ كي أرى جذوة الانفجار الشعوري جذوة التوهج، التصوير، قلب المشهد، لو تأملنا في قصيدة (لا أكتفي بهذا الشجر) سنجدها قصيدة تقوم على التركيز الشديد والتكثيف والايحاء، نتابع مفردات الثنائيات التضادية:
«افتح باب الصباح؛ لتغلقها باب المساء»
فتح × غلق
صباح × مساء
«اصعد مثل كل سلم، وانزل مثل كل هوة».
اصعد × انزل
سلم × هوة
نتأمل في الاناقة باختبار المفردات، وندخل الى سوح الأثر الشعري:
«قليل من ينحني مثل غصن
لذلك سأنحني مثل غصن».
نمرّ بالكثير من التوهجات والتشكيلات السريعة الوامضة لنصل الى لسعة الومض:
«من الظلم أن نكبّل الحدائق بالأسيجة»
قصائد هي عواصف تومض وسط الهدوء لا بعده، يتزامن الوقت بين الهدوء والعاصفة، هدوء لا تُؤتمن فيه العواصف، تبدأ من مفردة في جملة، قصيدة، ولكنك الأجمل:
«أجود العطور في العالم عطرك يا أمي»، يا أمي، أخرجت الجملة من الرتابة الى القوة الشعورية الدافقة، جمالية الحسّ التعبيري مع حراك اللفظة دراميا:
«وعندما تهمسين يتلاشى الضجيج إلا الموسيقى
عرفت اذن لماذا استوطنك كلّ هذا العسل»ص29.
أضاء الفكرة بلغته المكثفة، وقدّمها موجزة معبرة، قصائد، صورة، رؤى، لتصل الى ذروة الوجع الاجتماعي والهم الانساني:
«لا تخدعك الطيور، فبعضها جارح، ومنها لا يبصر إلا في العتمة»ص36.
الاستشهادات بشعرية المجموعة كثيرة، أوصلتني الى الايمان بأن بعضهم يكتب القصيدة بالكاميرا وليس بقلم.
٢٢
تعليق