في مسرحِ الصبا والشباب، أومضَتْ بارقةُ الشعر في وجدانه، فناغمتهُ دموعُ الأدبِ عند ضفاف شط الحلة الهادئ، وتجاذبتهُ مشاهدُ المنائرِ والشبابيك الخضراء في مدينته الفاضلة، لامست شغافَ قلبه، فوهبتهُ مفاتيحَ مؤرخٍ، كان قدره أن يهيم بتاريخٍ، وقفَ عنده الحكماء طويلاً، فأبدع في التأليف والتحقيق والنظم، ومثّلَ قامةً حِلّية جميلة، ولذا كان حوارنا مع الباحث والمؤرخ والأديب الدكتور سعد الحداد:
- فتشتَ في بقايا الزَّنْبَقِ، فهل وصلتَ لضالتِك؟
أَبدًا؛ لأَنَّ الوصول الى الكمال كلام, وهذا يؤطر بمزايا لا يمكن لأَحد استجلاءَ الحقيقة وهو بعدُ في مرحلة التقصِّي, وعالمنا اليوم على الرغم من كل وسائل التطور مازال بدائيا في تعامله وتعاطفه وتفاعله وحتى في تحقيق مبتغاه نحو حياة لا يسكنها الشياطين.
وما الزَّنْبَقُ بجمال زَهره وزَكِيِّ رَائِحَته إلَّا مركزُ استدعاءٍ لذاكرةٍ مستمرة, نتأمله فننعش النفس بشذاه تنفيسًا عن تصحّر روح العالم على اختلاف توصيفاته.
- كان أبوكَ الممسك بعرى الله، واسطة الخطاب مع (المطلق)، ما مفهوم الدلالة الرمزية لـ(الأب) في سرديات (الحداد)؟
الأَب رمز لكل معاني الطهر والنقاء, والرابط الوشيج لمفاهيم الحياة بصورها المختلفة, وهو رمز لحقبة من تاريخ عام بما يتسلح به من طاقات خلاقة معطاء بعيدة عن (الأَنا) وروح التهاون والتذمّر والانجراف الفكري والنفسي، وهو مَعبَرٌ للتجاوز والتخطي والتسامح والألفة, وهو بالمُجمل صورة لوضع عام.
- في مضمار السباق لإثبات(الذات) أيهما أسبق: سعد الأديب أم سعد المؤرخ؟
لابد أن يكون الأَدب أَسبقَ؛ لأَنَّ التاريخ ولد من رحم الأَدب, فالعواطف وما تبثه القرائح هي مفاتيح المؤرخ. كان الشعر يتلألأ في مسرح الصِّبا والشباب, حتى استقام عوده, فبدأ التاريخ يركز أقدامه جاذبًا, ولكل حالته وهما متناقضان, بين موسيقى وعاطفة وخيال وحلم, بين جمود ورتابة وزيف وخداع.
- لو طُلِبَ إليك تحديد (مفهوم الكتاب الحلي) كيف ستحدده؟
هو كتاب جوهرُهُ فكرٌ حلِّيٌّ خالصٌ, ومُصَنِّفُهُ عقلٌ مبدعٌ, غايتُهُ نشر المعرفة والارتقاء بالعقل الى مصاف إنسانية راقية. ومصداق القول: إنَّ للكتاب الحلِّي سوقًا رائجةً منذ تسعة قرون حتى يومنا هذا في شرق الأرض وغربها.
- ألا تعتقد بأن مفردة (التراث) مفردة زئبقية المعالم؟
بالتأكيد إذا لم تُردَف مفردة (التراث) وتُضَاف تكون عائمة, وكلَّما أُضيفت تَحدَّد المصطلح وبَانَ المفهوم, فالتراث في إطلاقه لا حدَّ له, لتَعدُّدِ أَبوابه واختلاف أَشكاله, ولسنا هنا بمعرض السرد لأنواع التراث ومضامينه, وهو في الأَصل إرث لا غنى عن تركه أَو التنازل عنه.
- وتيرة الإخراج المؤسساتي لـ(الكتاب الحلِّي)، تتناغم مع المشهور أم مع المغمور؟
تختلف المؤسسات المعنية في ذلك، على وفق ثقافة مسؤوليها، وأَهداف المؤسسة في النشر, منهم من يحبذ إعادة نشر المشهور؛ لكثرة الطلب على اقتنائه, ومنهم من يلجأ الى بعث المغمور؛ كونه يحقق فرصة جديدة في الكشف عن معارف جديدة، ولدينا كمٌّ هائلٌ لم يحن وقت إخراجه بعد الى عالم النور لأَسباب كثيرة.
- بصفتكم مؤرخ ومحقق، كيف تجد مهمة المثقف أمام الركام التاريخي الملغوم؟
أغلب صفحات التاريخ ملغمة, صِيغتْ بعناية فائقة, ودوّنتْ من قبل محترفينَ في عصور متفاوتة؛ إرضاءً لأَهواء الحُكَّام وإشباعًا لرغباتهم, فضلًا عن التعاطي في تسجيل الأحداث يخضع للتوجهات الشخصية قوميًّا أَو دينيًّا أَو عرقيًّا وغيرها, بل يصل الى حدِّ الغيرة والحسد, ومن هنا ينتج التاريخ المشوّه والمشوّش, والتاريخ المُؤدْلَج, والتاريخ المجانب لبيان الحقيقة ووضوحها, وكلّ ذلك يحتاج الى غربلة واسعة لهذا الركام وتنقيته من شوائب الدسِّ والتشويه والتحريف والتصحيف, وتقديمه للأجيال بنمط معاصر واعٍ, ويحتاج ذلك الى جهود كبيرة واستثنائية, وعقول قارئة متفحصة, لا الى أهواء ونزوات.
- المؤرخ يصنع النصّ حسبما يشتهي، والضحية هو المتلقي، أليس ذلك محبطاً في جدلية البحث عن النص؟
لا نصٌّ يتمتع بالنقاء المطلق سوى القرآن الكريم, والتاريخ برمته (كتابة وكتَّاب) داخل في نطاق التحريف والتزييف والتشويه والتسقيط، وإلا لو كان غير ذلك لما ظهرت علوم الدراية والرواية والرجال وغيرها؛ لتثبتَ مصاديق النصوص وسلامة نقلها وعدالة الرواة. وليس ثمة ما يبعث على الإحباط, مادامت هناك قراءة واعية وصحيحة للتاريخ تكشف زيف العابثين به.
- بالرغم من أسبقية المرحوم (يوسف كركوش) في تدوين ملامح الحلة التاريخية، بلغة عصره، إلا أنه أغفل ذكر المصادر، فهل تلك هفوة تطغى على قيمته الاعتبارية؟
نلحظ في جلِّ الكتب المؤلفة في (التاريخ) السَّرديةَ للوقائع والأحداث بعيدا عن الاشارة الى المصادر, وهو عُرفٌ درج عليه أغلبُ المؤرخين من القرون الأولى, أَمَّا إغفال المصادر من قبل المؤلفين، فهو تخفيف للقارئ، وعدم اشغاله في متابعة هوامش قد لا تعني شيئا لكثير من القراء.
والشيخ يوسف كركوش في كتابه (تاريخ الحلة) نهج ذات المنهج السالف في التأليف, وليس في الأمر سوء نية, ولا يُقدح بقيمة العمل؛ كونه رائدا في بابه, وله فضل السبق في البحث والتقصي؛ لما قدَّمه للمعنيين والأكاديميين من زاد مهم. وقد نختلف مع الشيخ في بعض ما جاء في كتابه, لكن نتمنى على المعنيين، أن يُجَاروا الشيخَ ليعيدوا كتابة تاريخ الحلة، مع كثرة المتوفر من المصادر اليوم .
- هل يمكن أن نطبق المنهج التفكيكي على نصوص التراث الحلي؛ بُغية غربلته أو تبيان الغث من السمين؟
التراث بما يتضمّنه من عناوين كثيرة داخلة تحت يافطته, هو عرضة دائما للتنقيب (سلبا وايجابا), وأرى أنه لا يمكن قسر المذاهب الفلسفية واستثمارها في توجيهه بالتشكيك وعدم اليقين على رأي (دريدا), ولكن بالإمكان العمل على وفق ما ذهب إليه (بارت) الى تشريح النصوص ثم إعادة بنائها, من أَجل خلق دلالات جديدة تغني القارئ في الوصول الى مبتغاه.
وأَرى أَنَّ من المفترض في الغالب أَن يكون الإرث الحضاري (المتقدم) يرتكز على أسس رصينة, فمنه ما لا يمكن المساس به لقدسيَّته, ومنه ما يمكن النَّظر فيه، وفي الثاني هناك فرصة تتوافق مع رؤية السؤال إذا توافرت القراءات الفاحصة الدقيقة القادرة على انتاج خطاب عقلاني هادف بعيدا عن التقوّلات التي ليس لها أَثرٌ في الأصل المبحوث فيه.
- هل توجد مشكلة في (عصرنة المفاهيم) على الموروث المقدس، لتيسير فهمه واستيعابه لدى الجمهور؟
ما المفاهيم العصرية الحديثة سوى تَبَدّلِ اصطلاحات ليس إلَّا فهي موجودة عند السلف بعناوين أخرى قد لا يُلتفت لها .
ومادامت الحياة في تطور وحركة العلم دائمة ومستمرة, فالعقل الانساني في سعي حثيث الى التمتع بالنافع والمفيد من كلّ مفردات ومخرجات تلك الحركة, مستثنين الأَفكار والموجات الهدامة للنفس البشرية التي تنتشر اليوم انتشارا كبيرا العالم.
وبما أَن الموروث المقدس خطٌّ أَحمر عند أَغلب الناس, فعلى المتصدّين الى نشر هذا التراث أَن لا يكونوا متساوقين ومنجذبين مع حركة التجديد ونهضتها الفكرية دون الحفاظ على نسقية الأصول, وعدم المساس بها, وانما بطرحها بما يتلاءم مع طبيعة المفاهيم المعاصرة.
- هل يخشى (سعد الحداد) الباحث والمحقق، من منطقة رخوة في تصدير التراث الحلي؟ (مُختلَفٌ عليه) مثلاً؟
ليست الخشية بمعناها السلبي, انما بمعنى الحرص, نعم هناك مناطق رخوة كثيرة يضجُّ بها تراثنا العربي, والحلي جزء من ذلك التراث، فاذا أَحسن المتصدون لنشره وتقديمه بتأنٍّ ورويَّة وتمحّص كان أجدى وأنفع في التَّحصُّنِ من عدم الانجرار الى مناطق النقد السلبية والتطبيل والتهويل.
- بعيداً عن المبالغة في فهم النص التاريخي، ولأجل انتزاع مداليل لا تنطقها الألفاظ، هل يمكن قراءة التراث بأدوات غريبة عنه؟
للباحث الثبت والمتمكن من أَدواته التحقيقية حريه متاحة بالاستعانة بأَية وسيلة ممكنة مهما كانت درجة قربها وبعدها عن روح النص.
وما الضَّيرُ من استخدام مذاهب وطرائق مختلفة للوصول الى الهدف, وكشف التعالقات والخفايا التي يتستَّرُ بها النص, بعيدا عن روح التشكيك وتحميل النص ما لا يحتمله من قراءات مختلفة.
- في مؤلفاتك التاريخية والتحقيقية، هل تعتقد بأنك أخرجت مؤلَفاً مغمور المحتوى؟ وهل حققتم في موضوع قد غفل عنه الكثير؟
أَرى في تحقيقي لكتاب العلَّامة السيد هادي كمال الدين الحلي (المنظوم في القرآن) ما يتوافق تمامًا مع مضمون ما تفضلتم بالسؤال, والكتاب تحت الطبع سيصدر عن مركز العلَّامة الحلي التابع للعتبة الحسينية المقدسة.
- ما هو آخر نتاج تحقيقي لكم دكتور؟
آخر نتاج في الشعر أصدرت ديواني الثالث (جفَّت كؤوس العمر), وفي التحقيق والحمد لله أواصل إصدار سلسلة ديوان الشعر الحلّي كان آخرها (ديوان الشيخ أحمد النَّحوي الحلّي) وفي التأليف كتاب (خطباء الحلة الفيحاء), وهناك مجموعة من العناوين إن شاء الله.
أع
تعليق