إليك يا فارساً، ترجّل الكون عن صهوة عزّه لما هوى:
أُدعى مليكة، حصلت على شهادة الطب بعد عناء طويل، كنت أهوى دراسة اللغة العربية، أعشق الكتابة والأدب، النقد، الشعر، والنثر، تهت في عالم من الأدوية الطبية والمؤتمرات والعلاجات وأكاسير لم تشفِ فقد روحي .
كانت حياتي هادئة لم أحدث ضجيجاً بل كان الضجيج يسكن داخلي حيث كنت أخوض حروباً طاحنة ،كنت أتسلل بين حين وآخر إلى ركني طاولتي وأشيائي الصغيرة أوراقي وأقلامي وطقوسي لأخط ما تمليه عليّ روحي، فأغرق في بحر من الكلمات والعبارات والصور وتستهويني الرحلة فأزداد إبحاراً وتعمّقا فيها، وأشعر بنشوة الانتصار عندما تولد على يديّ قصيدة أو رواية .
هذا المصنّف مضى على ركونه هنا مدة من الزمن، لقد احتوى على نزيف روحي وإكسير جراحاتي، غيمهُ ملأ سمائي، فتهاطل غماماً يفترض أن يروي ظمأ قلبي وشغفه، ولا أبالي باعترافي بأنه احتوى على دموعي أيضاً .
هذا المكان ألجأ إليه كلما شعرت بابتعادي عن نفسي، فأعود لأرمم ما يفقدني إياه الإغراق في معركة الحياة، وأشعر بأن لروحي عليّ حقّاً ولابد لي من وقفة مع ذاتي، مع حقيقتي وانتمائي، مع قرطاسي وقلمي وما تجود به ذائقتي الأدبية .
جلست إلى الطاولة، أوقدت فانوساً تقليدياً كنت قد ورثته عن جدتي، وقد رافق رحلة كتاباتي، وبدأنا بالاحتراق معاً. طفقت أقلّب صفحات المصنف الذي كان كثيراً ما يوقظ ذاكرتي من سبات عميق، بل وفي مكان ما منه يشعرني بعجز رهيب، هنا..!
يا لتلك القصة التي تعثرت عند مفترق طريق، سأحاول مرة أخرى أن أخوض هذا المعترك عسى أن أوفق لإيجاد الخاتمة المناسبة.
- في الصفحات الأولى:
- العباءة الزينبية تليق بك، الصبح يولد على وجهك حين ترتدينها يا ابنتي.
- أإلى كربلاء الوجهة؟
- وداعاً صديقتي أسألك الدعاء .
- دكتورة لا تغفلي عملك أجندتك مليئة بالمواعيد، ولا تثقي كثيراً بمديرك فصالح المشفى مقدم .
الرحلة (582) المتوجهة إلى الأراضي المقدسة، الطائرة ستقلع بعد ثوان، في ذاك اليوم حطت طائرة على أرض العراق تلك البقعة الطاهرة أرض المقدسات .
كربلاء بلاد النخيل والفرات، بدأت أجوب أزقة المدينة على غير هدىً فليس من السهل أن تطأ روحي أرضاً سفكت فيها دماء الطهر، كدت لا ألامس التراب بل كان مسيري بين أرض وسماء .
كنت أمشي الهوينا أتعثر في طرقات كربلاء، وتتعثر روحي في تفاصيل ذاك اليوم الذي بتّ أستحضره بين كل شهقة وزفيرها .
كان يوماً شديد الحرّ صحراء الطف الحارقة، الخيول، والخيام، والعباس وزينب، والحسين، والعطش، والقربة, والكفّان والمنحر .
أسرعت الخطى في أرض الطفوف، المشهد كلّه أمامي، العباس متوجه نحو المشرعة أخذت قربة لأملأها لسيدي، وتسللت بين النخيل المزعوم في تلك الصحراء القاحلة لأتفادى السهام التي كانت تتطاير في كل مكان .
لم أرَ أمامي سوى رمضاء، وقع السيوف، النيران، الصراخ والغبار، دماء، أشلاء، تيه وضياع .وصلت الفرات لأملأ القربة، وإذ بسيد الماء يقترب ليغترف غرفة بين يديه ينظر فيها ملياً ثم يرميها .
أيغتالك العطش وأنت سقيا يا سيد الماء !
وعند الضريح بكى الفرات، انتحب كثيراً، كان لا يدري كيف يكون العناق .
لقد احتوى الساقي بصدره وكفيه كلوحة أشبه بالقربان، وقف أمامه معتذراً، فاضمحلّ الكون وتصاغر بكلّ ما فيه .
كدت أنهي القصة إلا أنني وعند هذه النقطة توقف قلمي، في ذاك اليوم بكيت كثيراً، فدتك روحي يا عزيز الحسين صلى الله عليكما.
هذه القصة لا نهاية لها، مهما اتسع خيال القارئ لن يدرك سوى بعض مما تحتويه. إنّ كفّي العباس (عليه السلام) أسطورة، هو فقط من كتب لها البداية وهي تخبو.
أسندت رأسي إلى الوراء وغرقت في صمت عميق هكذا، كلما هممت بإخراج تلك القصة إلى النور تغرقني في ظلمات الحزن، فيعلن قلمي تمرده ويعكف عن الكتابة .
هذا المخاض لن ينبي عن شيء، عبثاً حاولت أن أسرد التفاصيل إلا أن الملحمة ولدت من تلقاء نفسها سطراً بعد آخر، وتوقفت في لحظة سجلها الزمن وخلدها التاريخ، وسطرت في كل الضمائر الحية عنوان الإباء والوفاء، مضامين مجردة لا لغة تترجمها ولا كلمات تسردها، دستوراً للتضحية والفداء .
لازالت كفاك سيدي تحتضن أوراقي ثم تذروها في محور فضاءات لامتناهية كلما هممت بصياغة القفلة !إلى أين تريدني سيدي؟! سأؤجل الخاتمة حتى حين، ليحين موعدها .
شعلة المصباح تكاد تخبو، زيته لم يكن أكثر جوداً من شربة ماءٍ في صيفٍ قائظ على رمال صحراء، هذه القصة ستبقى حيّة كما أبطالها، أوليس (جلّ وعلا) جعل من الماء كلّ شيء حي؟!
الفرات حيّ، كربلاء حية، العباس حي، وغرفة الماء التي اغترفها استحالت فراتاً يروي عطش الزائرين .
تلك الليلة لم يغمض لي جفن، لابد للقصة أن تذهب إلى دار النشر صباحاً، ولا سبيل للاعتذار عن التأخير، ثمة جرح يئنّ في روحي
لا يمكن لتلك الواقعة أن تتحول إلى قصة، لا يمكن لكاتب أن يسردها سرداً أدبياً، بل لابد له أن يخالف القواعد ويخرج عن النص .
تخونني كربلاء، تغدر بقلمي، نعم تظهر ضعفي وعجزي ككاتبة متمرسة، وتعيدني إلى المباضع والجراح فلا يليق بي إلا أن أدّعي تلك المهنة الافتراضية .
لازالت تشبهني مليكة التي حصلت على شهادة الطب بعد عناء، والتي تتسلل إلى عالمها دونما ضجيج، لازلت أختبئ خلف ملامحها طالما أن رحى الحرب تدور في داخلي، وسأبقى كذلك حتى اشتعال آخر، منتظرة بفارغ العشق.