إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من أسرار التعبير القرآني أمونة جبار الحلفي

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من أسرار التعبير القرآني أمونة جبار الحلفي


    هل يستطيع أحد منا مهما بلغ به العلم أن يغيّر مفردة في القرآن الكريم ليضع بدلها مفردة أخرى؟ كنت أسأل نفسي هذا السؤال، وأنأ أقرأ القرآن بتمعن:ـ هل ممكن النظر في بدائل المفردات على سبيل المعاينة؟ وكنت أرى نتيجة كل تجربة من تجاربي تنتهي بعدم قناعتي وعجزي؛ لأن كل مفردة من مفردات القرآن تأخذ موقعها اللائق بها، وضعت وضعا فنيا، بقصدية ربانية، فشغلت مكانها المناسب الذي لا يمكن استبدالها بكلمة أخرى، وإلا أدى ذلك الى اضطراب في الكلام.
    صرت أدرك يوما بعد يوم عبر تجاربي الصغيرة ومحاولاتي غير المجدية بأن القرآن الكريم في أعلى طبقات البلاغة. أعود لتجربتي، أغيّر المفردات دون أن اخبر أحدا عن الذي أفعل، أجد أن الكلمة التي أضعها غيّرت المعنى المطلوب، فيصير عندي فساد الكلام، وتذهب بجمال الجملة القرآنية تسقط البلاغة؛ لأن كل مفردة تتميز بها عن صاحبتها.
    قرأت لأحد علماء البلاغة أن اختيار المفردة في القرآن هي دعامة من دعامات فصاحة القرآن الكريم،، وعالم آخر يرى أن أي مفردة مهما كانت بصيرة ستعجز عن أن تسدّ بدل مفردة قرآنية، قررت إزاحتها في سبيل التجربة؛ لأن المفردة القرآنية قُدّرت تقديرا محكما، لذلك لا توجد مفردة قرآنية زائدة أو أخرى فيها نقص في المعنى، كل مفردة لها رسالتها الخاصة بها. أردت في إحدى تجاربي أن أتأمّل في آية: «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ»[سورة البقرة: 19]، فلو استبدلت مفردة (يجعلون) ووضعت بدلها مفردة (يُدخلون)، وغيّرت (الأصابع) ووضعت بدلها (أنامل)؛ لأن الأنامل هي التي تدخل في الآذان وليس الأصابع، لكني قرأت فيما بعد أن الجعل يعطي استمرارية الفعل ودوام الفعل وللمبالغة في بيان سدّ المسامع، وإيراد الأصابع، يقول أحد علماء البلاغة: إنها لإشباع المعنى، وكأنّهم سدّوها بأصابعهم لا بأناملهم، والجعل والأصابع منحتنا صورة عميقة الأثر عن حيرتهم ودهشتهم بحيث صاروا لا يهتدون الى استعمال الجوارح على النهج المعتاد.
    تفسير مقنع زادني عشقا في التأمل، وقفت أمام مفردة (صبغة الله) التي تعني (الاسلام)، وقفت عاجزة أن أجد أي مفردة ممكن أن تعوض مفردة (الصبغة)؛ كونها في خلايا القلب، لذا آمنت تماما بأن المفردة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز البياني.
    كنت أقرأ قوله تعالى: «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً»[سورة العاديات: 3]، وأسميها سجعا، أي أن في نهاية كل مقطع صوتي قافية توحده، لكني عرفت فيما بعد أن السجع من التكلف والتعسف، ونبّه النبيّ الكريم (ص): إنّ السجع سجع الكهان.
    وفي كتاب (سر البلاغة لابن سنان) يصرّ على تسمية الفواصل سجعا، لكنه يميزها بدرجة علو القرآن، ويسوق نصوصا من قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ»[سورة الفجر: 3]، ويستشهد بقوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ»[سورة القمر: 2].
    ونلاحظ وجود فاصلة قصيرة وفاصلة متوسطة وطويلة، وسمّيت فواصل ليتنزه القرآن الكريم عن سجع الرهبان، ويسمون آخر الآي فواصل، وهي كالقافية في البيت الشعري، وكالسجع في الكلام، لها وظيفتان معنوية يجمعها السياق، ولفظية تتصل بجمال الإيقاع، ومرتبطة بشدة بما قبلها من الكلام، وقوة تعطف عليها، كأنها جملة واحدة يسري فيها روح واحد ونغم واحد، ولو حذفت لاختلّ معنى الكلام: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ»[سورة المدثر: 7].
    وقال بعضهم انه سجع وما هو بسجع، إنما هو توازن بالألفاظ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»[سورة الناس: 6].
    من مظاهر إعجاز القرآن أن التعبير له حسابات دقيقة من أجل أن تأخذ كل مفردة من المفردات القرآنية موقعها، وبمعنى أن هناك فنية قصدية عالية، ماذا لو حاولنا استبدال كلمة بأخرى سيكون كما قلنا اضطراب، ويبقى من أسرار التعبير القرآني ما يختصّ باختيار صيغة بنائية: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»[سورة البقرة: 4]، سبب التعبير بالماضي في (أُنْزِلَ) الأولى مع الكتاب لم يتم نزوله الى ساعة نزول الآية الكريمة؛ لتغليب المحقق على المقدر.
    ولو تأملنا في الدقة التعبيرية في قوله تعالى: «يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ»[سورة البقرة: 9]، ننظر إلى تفضيل صيغة في قوله (يُخادِعُونَ) هو المبالغة في الكناية؛ لأن التعبير بهذه الصيغة البنائية يشير إلى المداومة والمزاولة، والمنافقون هم أساتذة كبار في النفاق والمخادعة.
    وهناك من أسرار التعبير القرآن ايضا التعبير ببعض حروف المعاني دون بعضها الآخر في مواضع قد يتبادر الى الذهن أن الأصل في اختيار الآخر، كما في قوله تعالى: «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»[سورة البقرة: 5]، على حرف استعلاء جاء ببناء تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يعتلي الشيء ويستولي عليه، يحب أن يتصرف، أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارة متفرعة على التشبيه بإعلاء الراكب واستوائه على مركوبه، أو على جعلها قرينة للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوب ليبين قوة تمكنهم وكمال رسوخهم، فاذا استعمل حرف آخر في هذا المكان لا يؤدي الغرض الذي أداه حرف الاستعلاء.
    وهناك بعض العلماء لا يرى في المفردة معجزة، بل انجاز الكلمة إلا عند اتصالها ببيان الجملة، إعجاز القرآن الكريم عند المحققين يظهر في التعبير التام للجملة وليس المفردة، التعبير القرآني يكمن في احكام الصورة الفنية.​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X