أصبحت قضية الخطاب المرجعي من أهم القضايا المثارة على الساحة الدينية والفكرية والسياسية والإعلامية، وأثارت الكثير من السجالات والمناقشات، فلابد من استقراء الفكر المرجعي ودوره في عصر الغيبة الكبرى.
ويرى الدكتور (طلال إبراهيم علامة) في بحثه (أصالة المسار عند المرجعين اليزدي (قدس سره) والسيستاني (دام ظله)، وهو أحد بحوث مؤتمر فتوى الدفاع المقدسة الدولي الثاني.
اشتغل البحث على أسلوبية الفواصل أو المقاطع التي أطلق عليها الباحث على مفردتها الحدّ، واعتبر الحدّ الأول هو مخصص لنهضة الحسين (عليه السلام)؛ كون الإسلام محمدي النشأة حسيني المتابعة، وهذا التشخيص يصنع من مرجعية السيد السيستاني حدّا ثانيا بمعنى فاصل ثان، ليصل الى مفهوم تشخيص المرجعية بأنها صدمت الواقع ودخلت لبّ الصراع.
وعبّر عن الجوهر المحمدي قبالة التسلط المطلق، وهذه التشخيصات مكنته من مناقشة ومحاورة بعض الأفكار المشوشة التي هدفت إلى تغيير مضمون الدين ذاته لتجهيل المفهوم الإسلامي الأصيل.
ركز البحث على دراسة التحولات في الممارسة الدينية عبر مدرسة النجف في ضوء تجربتي السيدين اليزدي والسيستاني، يرى الدكتور احمد عبد السلام محمد السعدي في قضية دراسة الواقع الديني باعتباره يحتاج الى بلورة خطاب ديني جديد، تشخيص يزيد تعقيد الوضع، اذا ما تركنا القيمة الاسمى التي هي جوهر الانتماء، وبحثنا يجد في استجلاء الغموض، أي أن الخطاب الجديد الذي يبحث عنه أحمد عبد السلام وغيره من الباحثين هو في قضية بناء الدولة من وجهة نظر معاصرة.
الدكتور طلال في بحثه يؤكد أن بناء الدولة كان في مشروعية ما قدمه الرسول الكريم (ص)، فنظم الأمور من صغيرها إلى الكبير منها، الأمر لم يستقم أمام التجارب المتتابعة التي تنجلي بالإخضاع السلطوي والسعي لإقامة الحاكمية بصورة قهرية، شملت جميع رجال الصف الأول الذين هيؤوا أنفسهم للحكم دون مراعاة الأصول، ولم يبقَ إلا مجموعة صغيرة من رجال الجوهر الانتمائي الأصيل أبو ذر وسلمان، وعمار، والمقداد، وأبو أيوب الأنصاري.
اذن ما نفع الخطاب الديني إذا كان يعتمد على الثابت المشترك ويتجاوز المتخلف عنه؟ ما هي ماهية الثابت المشترك؟ هو الاجتهاد الذي حصل قبالة النص النبوي، وإبعاد وصية المصطفى (ص)، أم نعتمد قاعدة الاستخلاف الإلهي مفاهيم إقامة الحاكمية الالهية، من آدم (عليه السلام) حتى محمد (ص) فهم دفة جوهر الصراع بين إسفاف الباطل وقيم الحق، من إبراهيم إلى إسماعيل الذبيح المفتدى، إلى يحيى إلى الحسين (عليه السلام)، صراع الحق لا يندب له إلا رجل بحجم الحسين (عليه السلام)، فمن واجه الحسين؟ هنا مرتكز الصراع من فيهم يمثل الدين ووعاظ السلاطين افتوا ليزيد بقاعدة «خرج عن حدّه قُتل بسيف جده».
الحسين يخرج بزعمهم عن حدّ الدين، النبي رحمة والحسين منه، صراع بين (الخير ــــ الشر) الحسين انتمى الى شجرة الصلاح المعصوم خط من إبراهيم وإسماعيل أمة الحق. الشعار الأول واحد إمّا القبول بالذل أو الهجرة كما فعل جده.
إذن مفهوم الخطاب الديني يبدأ من جذوة فهم المصدر (الأحداث)، سؤال يطرحه البحث: لماذا بادر الحسين لشراء الأرض من بني أسد في الغاضرية؟ هاجر من مكة منعا لحرمتها، وأوامر يزيد واضحة «اقتلوه ولو علق بأستار الكعبة».
الحسين هو المدرسة الباقية من سيد البشر، الخط الذي اباح قتل سيد الدين بحجة الخروج، هو منطق غير راشد، ويبدأ منطق التضحية «خيّر لي مصرع أنا لاقيه»، وانطلق القوم من بعد واحد (عبد شمس × بني هاشم)، واراد بنو مروان دولة اعرابية، بينما الرسول (ص) بناها دولة اسلامية، لنبذ تعاليم البادية التي بها قبلوا شتم الصالحين والأولياء، والحكام الأمويون نجحوا في إعادة الأمور إلى عصور الجهل.
الأنبياء لم يبدؤوا أحدا بقتال، سنّ قواعد الاشتباك قبل المعركة وأثنائها وبعدها ان وقع العدوان منعا لكل ظلم، كل الذي حدث مع أسامة بن زيد (أهلا شققت عن قلبه)، إن حب السيطرة على الجماعة هي من جميع النواحي سلب.
وبدأ النص البحثي الى الدخول الى عمق فلسفة الاسلام المصلحة العامة، نجد امير المؤمنين علي (عليه السلام): «لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين» ليصل من خلالها إلى نتيجة مهمة هو استبعاد بني هاشم من السلطة لم يكن وليد مصادفة، وإنما كان نتيجة تخطيط.
ولنعد إلى الحد الثاني في مقاربة عنوان الجهاد المقدس بين السيد اليزدي وعند السيد السيستاني، وانأ أقرأ البحث وصلت يقينا الى احتياجنا الى فهم الخطاب المرجعي وليس الى تجديده عبر البحوث الكثيرة التي تحمل مثل هذا العنوان، الفقيه غير قادر على اعلاء العدالة طالما انه ينصّب من قبل الحاكم، هذه حدود القضية، كان الفرق كبيرا بين الشرع والسلطة، انحسر التدين وصار تطبيق الدين مزاجيا حتى في العهود الراشدة، إلا ما وفق الى تنفيذه الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وبعده سادت عهود الظلمة، إلى أن شرع العالم الكركي عام (1570م) الى اعادة دور الفقيه عبر النيابة للإمام المعصوم، ثم كان دور كاشف الغطاء (1810م) الذي أتم نظرية النيابة بما اطلقه على ناصر الدين القاجاري من شرعية لمواجهة الروس الغزاة، باعتباره نائبا لنائب الإمام، فوسع نيابة العصمة الى الفتوى وإعلان الجهاد وامتلاك المال.
وفي العام (1849م)، اطلق النراقي يد الفقيه في السلطة، محددا دوره السياسي في زمن الغيبة الكبرى، سهل الأمر على المرجع الشيرازي الكبير فأصدر فتواه بتحريم التبغ (1891م) في ايران، ماذا لو اتبعنا مقارنة بين البحث وما يعرض من بحوث تطلب بالتجديد عبر وسائل الإعلام الجديدة لامتلاك مراجعها الى اثر محدد ومفعول غير ذي وقع، وعندنا رجل المرجعية لا تفصله عن العصمة الالهية سوى درجة المنح اللدني، واخذها بالأخلاق النظرية والعملية، بعد أن شهد له بالاجتهاد والأعلمية والكمال النسبي والترفع برحلة طويلة تتجاوز نصف عمره لا تقل عن خمسين سنة لرفع شأن الشريعة تمحي الأبعاد الحياتية والغايات الشخصية.
الآن نحن بحاجة الى مثل هذه البحوث؛ كوننا نعيش في مجتمعات فيها ضعف في الانصاف وعدم الشفافية والسعي دون الرضا الالهي، الأحكام تصدر بمزاجية والاستحسان مزاجي.
وبدأ البحث في الدخول الى روح الموضوع، آراء اليزدي الذي استرجع وهج القيادة الشرعية ودورها الريادي قي التصدي لمصالح الناس بالتوجيه والتدبر وتأكيد على مرجعيته اثر وفاة الاخوند ومعرفة الناس بخدعة الدستور المسخ والذي سيظهر مع رأي المرجع السيستاني في التزام الأخلاق والثوابت الدينية والعراقية عند كتابة الدستور، السيد اليزدي افتى:
1- ضد الانكليز باحتلالهم العراق.
2- ضد الروس لغزوهم ايران.
3- ضد الطليان لاحتلالهم ليبيا.
المرجع الشيعي دائما يقدم المبدأ على الغاية، وهذا هو تقليد الإمام علي (عليه السلام)، ازاء حرب الروم وترك حرب معاوية، الظلم الذي اثير عن العثمانيين في تعاملهم مع الشيعة بأعمال مستهجنة ولا مبرر لها، الا فتنة مدمرة، لاسيما بعد تفتيش النساء بأيدي العسكر، جنّ جنون النجفيين ودخلوا في مواجهتين ضد العثمانيين، وجّه النصيحة لردعهم عن اذى الاعراض والنصيحة في الدين واجبة مهما كان الخلاف مستقرا وافتى بالجهاد مرتين ضد الانكليز (1914 ـــ 1915م)، وفي المرتين اشترك ابنه محمد في المواجهة.
راسل مختلف الوجهاء وطلب منهم الدفاع المقدس، وادار امور الاقتصاد ورتّب اوامر الإدارة مما ألزمه تحمّل اذى العامة، لاسيما بعد فصل الدين عن الدولة، اوربا ودستور مظفر شاه المستوحى من الدستور البلجيكي (1830م) والذي أنتج وصول العلمانيين بالتزوير.
السيد السيستاني عُرف بورعه وتقواه رفض بجرأة دستور بريمر مصيريا وحرم بيع الاراضي للصهاينة، الذهن المتوقد يقدر على التصور المستقل والحر، او المقترن بالمثل، وسع قاعدة الاحكام المشتركة مع المذاهب وطالب بشرعية الانتخاب لمصلحة الشعب العراقي، ورفض مبدأ التعيين وعمل على احياء نظرية المرجعية العراقية، وعارض سيطرة الاحزاب السياسية الدينية المرتبطة مع الاحتلال الامريكي، وعارض تسنم العمائم شؤون رفد الادارة وانصار اهل الشرع على الارشاد والتوجيه، واستقبل شخصيات عراقية ودولية عديدة، لكنه لم يتحدث ابدا الى وسائل الإعلام بشكل مباشر، اظهر بفتواه معرفة واقعية بإدارة البلاد، ودعا الى حفظ المؤسسات؛ كونها مالا عامّا.
رفض مفهوم قومية المرجعية، رفض لقاء بريمر (الحاكم المدني)، رفض وضع صورته في الاماكن العامة، ولم يبادر الى القتال بل استمر في الدفاع عن الناس وتشابه في امور كثيرة مع مرجعية السيد اليزدي، وكانت الفتوى للدفاع المباركة هي العنوان الابرز مع وجود الحنكة التي منعت نشوب الحرب الاهلية ودور المرجعية في التأصيل الحسيني المبارك.
أعجبني
تعليق
مشاركة
تعليق