إن من بين الأسس التي قام عليها الإسلام هو : إعطاء الإنسان كرامته الكاملة في هذا الوجود، ولا ريب أن مسألة الحريات من المسائل المتعلقة بكرامة الإنسان، إذ إن الإنسان مخلوق قد جعله الله تبارك وتعالى حراً في هذا الوجود، ولولا هذه الحرية لما كان هناك أي معنى للمعاد الذي هو الركيزة الثالثة من الركائز العقائدية التي اتفق عليها جميع المسلمين.
فالوجود الإنساني الذي زوّد بكل العناصر المؤدية إلى اعتباره خليفة الله في أرضه، والمخلوق الأرقى من بين كل المخلوقات، لابد أن يكون حراً في عقيدته وسلوكه وكل ما يتعلق بجانبه الوظيفي.
نعم هناك بعض القيود التي تحدّ من بعض رغباته وطموحاته لا مجال لأن يكون فيها حراً، وإنما يكون ـ مع باقي الموجودات الأخرى ـ داخلاً فيها تحت القوانين الكونية والطبيعية، والتي تجبره قهراً أن يخضع لها، وأن لا يتحداها، وإلاّ فإن مصيره الهلاك لا محال .
ونحن عندما نريد أن نسلط الضوء على هذا الجانب المهم، غايتنا ان نتعرف على النظم الإسلامية ـ بشكل مختصر ـ والتي جاءت منسجمة مع الفطرة الإنسانية التكوينية، وبخاصة مسألة الحرية التي أرادها الإسلام للإنسان بشكل حقيقي وكامل، لا الحرية الشكلية التي تنتهي بالإنسان إلى درجات الحضيض والانحراف والفوضى في كل شيء.
إن الحرية التي يريدها الإسلام ويجاهد من أجل منحها للإنسان، هي تلك الحرية التي يستطيع معها أن ينال مراتب الكمال والتقدم نحو غايته الوجودية. ولذلك فان الحرية في منهجه لابد أن تكون مقرونة بالمسؤولية تجاه الأفراد والمجتمع والدولة، بل حتى الطبيعة وقبل ذلك تجاه الله تبارك وتعالى.
ومن خلال هذا الهدف النبيل لابد أن لا تخرج الحرية عن الأسس العامة التي قام عليها الإسلام، ومن أهمها مبدأ العدل الذي يعتبر الأساس الموضوعي لكل تشريع اجتماعي أو سياسي وغير ذلك ; لأن الحرية إذا لم تكن مبنية على العدل الذي يوزن الأمور ويثبت الحدود ويعطي كل ذي حق حقه فإنها سوف تصبح عاملاً للفوضى والهمجية، وتؤدي بالمجتمع إلى الدمار والخراب، وبالفرد إلى الاستهتار بالقيم، وحينئذ تنقلب الموازين الحضارية وتضيع الحقوق، وتنقلب الحرية من كونها وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلى أداة وعلّة للظلم والاستعباد والتخلف.
لهذا عندما نادى الإسلام بالحرية بدأ أولاً وقبل كل شيء بحرية الإنسان من الداخل، أي من نفسه وعقله وروحه، التي كانت أسيرة الهوى والعادات والتقاليد وعبادة الأصنام الحجرية والبشرية. وثانياً بحريته من الخارج من خلال إزالة كل ما من شأنه ان يحول بينه وبين تلك الحرية المنشودة أمثال حكم الطواغيت والظلمة والجائرين وكذا عن طريق تشريع الأحكام المنسجمة مع ذلك الهدف النبيل.
أراد الإسلام بدعوته للحرية الحقيقية أن يفكّ القيود من أيدي الإنسان، ويمنحه حريته في التفكير والاختيار، وهذا الهدف هو الذي دعا المسلمين أن يفتحوا البلاد الأخرى التي كانت مسحوقة تحت نير الحكام الجبابرة، الذين كانوا يمارسون شتى أنواع الانغلاق الفكري للجماهير والأمم، ويسيروهم تحت رغباتهم وأفكارهم المبنية إما على الشرك أو إنكار الخالق سبحانه، أو غيرها من الوسائل. لذلك فإن مبدأ التوحيد يعتبر من أعظم المبادئ التي تمنح الإنسان حريته وتزيل تأثير الآباء والأجداد والظروف المحيطة به والتي تحجب عقله عن التفكير والتأمل، وروحه عن الصفاء والرقي، وتجعله يسير بلا هدف كالأعمى يتخبط لا يدري أين الطريق.
وأما على الصعيد الخارجي من ممارسة الحرية التي يتبناها الإسلام، فقد منح الإنسان أرقى درجات الحرية وعلى كل الأصعدة، ابتداءً من حريته الشخصية وانتهاءً إلى حريته الفكرية والاعتقادية، ومن هذا المنطلق نرى المعاملات في الفقه الإسلامي أمثال البيع والشراء والهبة والعارية وغيرها، يشترط فيها الحرية والاختيار كشرط أساسي لصحة المعاملة. هذا من الجانب الفقهي.
وأما من الجانب العقدي فلا يقل شأناً عنه، بل هو شرط أساسي لقبول أي اعتقاد. لذلك يوجب الإسلام على أتباعه أن يكونوا في أصول العقائد مجتهدين لا مقلدين. بل يعتبر التقليد في أصول الدين مسخ للإيمان وخروج عن ربقة المؤمنين ودخول في زمرة الكافرين .
إن المتتبع للفكر الإسلامي ونتائجه العظيمة المبنية على النصوص التأسيسية للإسلام، يرى بشكل واضح أن مسألة الحرية تحظى باهتمام بالغ وعلى كافة الأصعدة، سواء على الصعيد الاعتقادي الذي تكفلت بيانه والبحث فيه المناهج الكلامية، كمسألة الجبر والتفويض والقضاء والقدر وغير ذلك ... . أو على الصعيد الاجتماعي والقانوني وحدود المسؤولية وطبيعتها، سواء أمام الله أو المجتمع والدولة. وهذا لا يقل أهمية عن الجانب الاعتقادي، لأنه الممارسة العملية للنظرية الاعتقادية.
ومن كل ذلك نرى أن الاهتمام الذي أعطاه الإسلام للحرية والكرامة الإنسانية لم يسبقه إليه أحد بهذا الشكل. وأما الحرية التي تدعيها الأنظمة الرأسمالية والليبرالية فهي حرية مبتورة خاوية ليس فيها إلاّ القشور، وهي بعد ذلك مغالطة مع الواقع وتجرد عن الموضوعية، لأنها غير ناظرة إلى مصلحة الإنسان الحقيقية، بل هي في الواقع غافلة عن جوانبه النفسية والاجتماعية، غير آبهة بالآثار الفظيعة التي خلفتها بشكلها اللامعقول هذا على الفرد والأسرة والمجتمع.
بقلم
السيد فاضل الموسوي الجابري
تعليق