يواجه القارئ العربي مشكلة إدراك معرفي، ترتبط بتأثير الأقلام الفاعلة في كتابة التاريخ ، ظناً منه أنّ كل ما يتمخض عنها صحيح ولا مجال للشك فيها...وربما لا يفرق بين معلومات عامة يختزنها في الذاكرة إكتساباً، وبين المعرفة، في الوقت الذي لايمتلك أدنى إحاطة سابقة عن الموضوع، ما يؤدي بالنتيجة إلى الحد من قدرته على التحليل والاستقصاء، والخروج بقراءة صحيحة للحدث..وهو ما اصطلح عليه حديثاً بـ(وهم المعرفة) او (خرافة الفكر الإنفرادي و قوة الحكمة الجماعية)..
وهنا يكون حديثنا عن التحريف التبريري، ذلك المنهجٌ الذي سلكه مؤرخون إلتزموا أدبيات ونواميس المنظومة الأموية الحاكمة، ولم يتوقفوا عند حدود معينة، بل راحوا يمنحون أفقهم المعرفي مدياتٍ خارج المألوف ، وفق ما يصح أن نطلق عليه (الميوعة الفكرية) .. وهم يقومون بمناقشة القضايا العقائدية والشرعية، بميوعة فكرية وعدم انضباط مفاهيمي، وصولاً الى إقناع الجمهور المقصود بـ(وهم المعرفة).
(إبن خلدون) واحدٌ من أولئك ،الذين طرقوا كل بابٍ لأجل تبييض الصفحات السوداء لبني أمية، وتبرئة ساحة الطاغية المُرتد(يزيد بن معاوية) من دماء آل بيت النبوة(صلوات الله عليهم) بكربلاء.
ونستشهد بعالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) ، أحد أبرز المتأثرين بـ(إبن خلدون) والمولعين به ، حيث يقول «إن صحَّت هذه الرواية، فهي دليل على أن ابن خلدون كان له في أول أمره رأي في ثورة الحسين يشبه رأيه في جميع الثورات الفاشلة، ولكنه تراجع عن هذا الرأي بعدئذٍ خوفًا من الناس، فمحاه من مقدمته، ووضع مكانه الرأي المذكور»
واذا ما علمنا أن ابن خلدون قرأ كتاب ابن عربي (العواصم من القواصم)، وتأثَّر به كثيرًا، فإن ملامح المشهد ستتضح شيئاً فشيئا، ولم تكن (عواصم) ابن العربي، وحدها المُكونة لرؤية (إبن خلدون) المترنحة بين (السياسة الشرعية المؤدلجة) وبين (منهج تجريبي) إعتمده في تفسيره للوقائع والحوادث..
فهذا (أبو حامد الغزالي ) في كتابه (إحياء علوم الدين)، ينفي تهمة قتل (الحسين الشهيد) عليه السلام ، ويُبَرِء ساحة يزيد (لعنه الله) جملةً وتفصيلاً، ويُفتي بعدم جواز الظن بذلك من أصله !! ومثله (ابن الصلاح الشهرزوري) وتبعهم خلقٌ من أقرانهم ،الذين التمسوا الأعذار في سياق العلم الشرعي..
وبالمقابل فهناك علماء شددوا على تفسيق (يزيد) وتكفيره ولعنه، كـ(الشوكاني) في كتابه (نيل الأوطار) و(شهاب الدين الألوسي)، في تفسيره (روح المعاني)، جرياً على عادة من سبقهم في هذا المنحى كـ(القاضي أبي يُعلى الفراء) و(التفتازاني) و(السيوطي )، و(ابن الجوزي).
لقد صاغ (إبن خلدون) نظريته في الدفاع عن (الخليفة السكير القاتل) ،من أن خلافته كانت في حقيقتها أمراً واقعاً لا سبيل إلى تغييره أو تبديله، وهي نوع من الحتميات التي فرضتها الدينامية التاريخية، الأمر الذي يعطيها قدراً من القوة والرسوخ، باعتبارها إرادة عليا لا مناص من التسليم والانقياد لها..!!
ولقد ثَبَّت (علي الوردي) متناقضات إبن خلدون في كتابة التاريخ بقوله " مما يلفت النظر أن ابن خلدون لم يذكر شيئًا عن ثورة الحسين في تاريخه العام، بل ترك مكانها فارغًا، والغريب أن الذين قرأوا تاريخ ابن خلدون، والذين اشتغلوا في طبعه، لم يفطنوا إلى علة هذا الفراغ الأبيض في صفحات الكتاب"
ويُضيف الوردي "يخيل لي أن ابن خلدون عندما أراد أن يكتب عن ثورة الحسين في تاريخه، تملكته الحيرة وتوقف عن الكتابة، فهو لا يدري أيكتب الرأي الذي يؤمن به في قرارة نفسه، أم يكتب الرأي الذي يريده الناس منه، والظاهر أنه خصص لحادثة الحسين صفحات من تاريخه، وتركها بيضاء لكي يعود إليها فيملأها بعد أن يستقر في أمر الحسين على رأي معين، ثم مرت به الأيام فنسى أمر تلك الصفحات البيضاء، حيث بقيت على حالها إلى يومنا هذا".
وهناك نقد مهم لابن خلدون، من أحد أبرز رجالات الإصلاح الديني الحديث، ونعني به الشيخ عبدالرحمن الكواكبي ، الذي وجَّه نقدًا لاذعًا لمنهجه عند حديثه عن الاستبداد ، ومستغرباً دفاعه المستميت عن المجد، مهما ترتَّبت عليه من مخاطر ،تصل أحياناً لطلب الموت كرامة ومجدًا، فيقول (الكواكبي) "وقد أشكل على بعض الباحثين أيّ الحُرصين أقوى؟ حرص الحياة أم حرص المجد، والحقيقة التي عوَّل عليها المتأخرون وميَّزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل؛ وذلك المجد مُفضَّل على الحياة عند الملوك والقواد وظيفةً، وعند النجباء والأحرار حميَّةً، وحبّ الحياة ممتازٌ على المجد عند الأُسَرَاء والأذلَّاء طبيعةً، وعند الجبناء والنساء ضرورةً، وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت عليهم السلام، معذورين في إلقائهم بأنفسهم في تلك المهالك لأنهم لما كانوا نجباء أحرارًا فحميُّتهم جعلتهم يُفضِّلون الموت كِرامًا على حياة ذلٍّ مثل حياة ابن خلدون الذي خطَّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدَّد مجدهم"
وإذا تتبعنا المواضع التي سجَّل فيه المؤرخ الأندلسيُّ، تحاملهُ على (أهل بيت النبوة) عليهم السلام، ومحبته لأعدائهم..لطالَ بنا المقام ، ومن أراد التعرف على المزيد فليراجع ما كتبه المؤرخ الأندلسي..حيث عدّ(معاوية) من (الخلفاء الراشدين) خلافاً للموروث العقدي للجمهور !!، وشبّهه بـ(سليمان بن داوود)!! .. ويكرّر دعائه في ختام كل كلام يتعلّق ببني أمية "والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم”!!
ونحنُ بدورنا نؤمِّن على دعاءه ونقول ( آمين ..يا رب العالمين).