مدخل تمهيدي:
إنَّ مسألة عِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره - إثباتاً أو نفياً - هي واحدة من المسائل الاعتقاديّة التي تترتّب على بحثها وبيان أدلّتها من الروايات عدّةُ معطياتٍ تربوية وثمارٍ تمسّ حَراكَ الإنسان المؤمن المُنتَظِر، وتسهم في صياغة وعيه وتمهيده وتعاطيه مع ما يجري من الحوادث الموعودة التي لها علاقة ترابطيّة منتظمة وحكيمة، تتبع إرادة الله سبحانه، ومنها ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وكلّ ما له من دخالة تكوينية أو غير تكوينية في تحقّق ذلك وفق السنَن الإلهيّة والمقتضيات الطبيعيّة والبشريّة.
ومن حيث البحث في الإمكان الوقوعي عن أنّه هل يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره أو لا يعلم.
فيمكن القول: إنَّه لا يوجد ثمة محذور لنفي علم الإمام (عجَّل الله فرجه) بذلك في حدّ نفسه، إلّا ما ورد في لسان بعض الروايات، والتي حُمِلَت على نفي ذلك لملاكات تقتضيها بحسب الظاهر، كعدم الإذن بإظهاره، أو ستر العِلم بالوقت، وكراهية التعيين، ولزوم الكتمان، أو أنّ أمر الظهور موكولٌ إلى الله تعالى، ومرتبطٌ بالبداء، وسنعرضها في ما يأتي متناً ودلالةً.
وممّا يقوّي الإمكان الوقوعي(١) لعِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره هو إناطة مشروع الظهور الفعلي به، ولوضوح أنَّ العِلم من شرائط التكليف العامة والقيام بالواجب، حاله حال أيّ تكليفٍ شرعي آخر واصلٍ إليه مشروط بإعلامه وتبليغه، يمكن النقاش بأن الشرط هو العلم قبل العمل، فيمكن القول بعدم علمه إلى أن تحين لحظة التكليف فيتم إعلامه من الله تعالى.
وقد نبَّه علماء الكلام والعقيدة على ذلك، كالشيخ الطوسي (رحمه الله) حيث قال: (وإعلام المُكَلَّف وجوبَ الفعل أو حُسنه أو دلالته عليه شرطٌ في حُسن التكليف من الله)(٢)، وذكر العلّامة الحلّي (رحمه الله) أيضاً في تعريف التكليف وبيان حدّه: (إرادة من تجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه المشقّة بشرط الإعلام... وشرَطنا الإعلام لأنَّ المُكَلَّف إذا لم يعلم إرادةَ المُكَلِّف - اللهُ سبحانه - بالفعل لم يكن مُكَلَّفاً)(٣).
وصفة العِلم في علم العقيدة هي من الصفات التي يجب أن يتّصف بها الإمام المعصوم المنصوب بحيث (يجب أن يكون الإمام عالماً بتدبير ما هو إمامٌ فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل... وإنّما يجب أن يكون الإمام عالماً بما أُسند إليه في حال كونه إماماً)(٤)، وأنَّ القضاء على الظلم والفساد وبسط القسط والعدل هو من جملة ما أُسنِدَ إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تحقيقه في وقت ظهوره الموعود.
ولا ينحصر طريق الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى العلم بوقت ظهوره الشريف بإعلام الله تبارك وتعالى إيّاه، مع غضّ النظر عن نوع هذا الإعلام أو الإذن الإلهي وحياً أو إلهاماً أو تحديثاً ملائكيّاً أو غير ذلك كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات، والتي سنذكرها في ثنايا البحث، بل هناك سُبُلٌ أخرى ومنها زوال الموانع الظرفيّة وتحقّق الشروط الواقعيّة، بما يمكن التعبير عنها في علم الكلام بزوال العلّة المقتضية للغيبة، فضلاً عن عِلمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت المعلوم للظهور من طريق آبائه المعصومين (عليهم السلام) (فهو يتّبع في ذلك ما شُرِّعَ له وأُوقف عليه)(٥).
وأشار الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى هذه السُبُل في جانبي النقل والعقل معاً، حيث قال: (فإنَّه ما دامت العلّة الموجبة حاصلة فإنّه مُستترٌ إلى أن يعلم الله تعالى زوال العلّة، فيعلم ذلك بما وقفه عليه آباؤه من الوقت المعلوم، وبالأمارات اللائحة للنصر، وغلبة الظن يقوم مقام العلم في ذلك، وخاصة إذا قيل لكَ: إذا ظهرت لكَ أمارات النصر فاعلم أنّه وقت الخروج، وكلُّ ذلك جائز)(٦).
والروايات أشارت إلى البسط في العلم وتحقّقه للإمام المعصوم وحصوله بإعلام الله تعالى له، فعن معمّر بن خلاّد قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل من أهل فارس فقال له: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يبسط لنا العلمَ فنعلم، ويقبض عنّا فلا نعلم»، وقال: «سرّ الله (عزَّ وجلَّ) أسرّه إلى جبرئيل (عليه السلام) وأسرّه جبرئيل إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأسرّه محمّدٌ إلى من شاء الله»(٧).
والحاصل:
إن علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبحسب هذه المرتكزات العقديّة القرآنية والروائية، والتي يستند إليها الإمام نفسه في حراكه التغييري والإصلاحي قابلاً لإدراك وقت الظهور وتعيينه بالإذن به من عند الله سبحانه، ولأنَّ نفس العلم اللدني بالظهور هو من وسائل التمكين والقدرة المحفوفة بالإرادة الإلهيّة والتسديد، فضلاً عن أنَّ العلم بالوقت وحيثيّاته والظروف المحيطة به هو من جملة ما يحتاجه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فعلاً للنهوض بالوظيفة الكبيرة والخطيرة لما يتوفّر عليه (عجَّل الله فرجه) من الاستعداد الذاتي والإمكان في تلقّي العلم والإلهام الربّاني، وهذا ما نبّهت عليه الآية القرآنية الشريفة في قوله تعالى: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾.
وكذلك بيّنت الروايات هذا المعنى، كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: ٣٥)، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: ٢٦٩)، وقوله في طالوت: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: ٢٤٧) - وإنَّ العبد إذا اختاره الله (عزَّ وجلَّ) لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلمَ إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيّد، موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»(٨).
وطبقاً لمضمون هذه الرواية فقد يتحقّق علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره بطريق الإلهام الربّاني(٩) (وألهمه العلمَ إلهاماً) أو بما يُسمّى بالعلم اللدني، والذي يتحصّل من الإلهام أيضاً دون واسطة، بحيث يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند زوال علّة الغيبة أنَّ وقت الظهور قد حان، ومن المعلوم أنَّ الإلهام هو أحد مصادر العلم والمعرفة، وهو طريق حاصل ومتحقّق في حقّ الإمام المعصوم (عليه السلام)، فعن علي بن يقطين قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): علمُ عالمكم استماعٌ أو إلهامٌ، قال: «يكون سماعاً ويكون إلهاماً ويكونان معاً»(١٠).
وأيضاً يمكن أن يكون علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره من طريق إمكان العلم بالشيء المُرَاد والمُنتَظَر والموعود إذا شاء الإمام أن يعلمه بإعلام الله تعالى له فعلاً وإحداثاً، وهذا المعنى وارد في الروايات، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ، يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: «لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ»(١١).
وثمة أمر مهمّ ينبغي التنبيه عليه، وهو: أنَّ نفس علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف، وبأيّ صورة ممكنة التحقّق والوقوع، يتداخل ويرتبط مع ما ذكرنا من ضرورة زوال الموانع المقتضية للغيبة على مستوى شخصه المقدّس، كزوال الخوف من القتل، أو على مستوى الظروف العامة للوقت والمكان والإنسان والدول والمجتمعات والقدرات والقواعد الموالية والمؤهَّلة لنصرته، ومدى مناسبة ذلك كلّه مع ما يجب القيام به من القضاء على الظلم والفساد وبسط العدل والحقّ والأمان والهدى والإصلاح، وتأسيس الدولة العادلة في الأرض قاطبةً.
فالعلم بالظهور ليس علماً فجائيّاً يحدث دون أن ينظر في ملابسات الواقع وحيثيّاته الإعدادية وقابلياته الفعلية، فقد يكون محفوظاً ومعلوماً من ذي قبل في ذهن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحاضراً عنده، بمعنى العلم المبذول(١٢) بحسب تعبير الروايات بوصفه من خواصِّ خَلق اللهِ تعالى، ولكّنه (عجَّل الله فرجه) ينتظر تحقّق كلّ ما له دخالة في إنجاح مشروعه، من يقينيّة استجابة المخلصين قادةً وأفراداً وتحقّق قدرتهم الفعلية على الامتثال والطاعة والبذل بين يدي الإمام نفساً ومالاً وغير ذلك، وهذا المعنى ظاهر في مضمون الروايات المأثورة، فعن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام): «يجتمع إليه من أصحابه عدّة أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: ١٤٨)، فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد، وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)»(١٣).
إنَّ مسألة عِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره - إثباتاً أو نفياً - هي واحدة من المسائل الاعتقاديّة التي تترتّب على بحثها وبيان أدلّتها من الروايات عدّةُ معطياتٍ تربوية وثمارٍ تمسّ حَراكَ الإنسان المؤمن المُنتَظِر، وتسهم في صياغة وعيه وتمهيده وتعاطيه مع ما يجري من الحوادث الموعودة التي لها علاقة ترابطيّة منتظمة وحكيمة، تتبع إرادة الله سبحانه، ومنها ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وكلّ ما له من دخالة تكوينية أو غير تكوينية في تحقّق ذلك وفق السنَن الإلهيّة والمقتضيات الطبيعيّة والبشريّة.
ومن حيث البحث في الإمكان الوقوعي عن أنّه هل يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره أو لا يعلم.
فيمكن القول: إنَّه لا يوجد ثمة محذور لنفي علم الإمام (عجَّل الله فرجه) بذلك في حدّ نفسه، إلّا ما ورد في لسان بعض الروايات، والتي حُمِلَت على نفي ذلك لملاكات تقتضيها بحسب الظاهر، كعدم الإذن بإظهاره، أو ستر العِلم بالوقت، وكراهية التعيين، ولزوم الكتمان، أو أنّ أمر الظهور موكولٌ إلى الله تعالى، ومرتبطٌ بالبداء، وسنعرضها في ما يأتي متناً ودلالةً.
وممّا يقوّي الإمكان الوقوعي(١) لعِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره هو إناطة مشروع الظهور الفعلي به، ولوضوح أنَّ العِلم من شرائط التكليف العامة والقيام بالواجب، حاله حال أيّ تكليفٍ شرعي آخر واصلٍ إليه مشروط بإعلامه وتبليغه، يمكن النقاش بأن الشرط هو العلم قبل العمل، فيمكن القول بعدم علمه إلى أن تحين لحظة التكليف فيتم إعلامه من الله تعالى.
وقد نبَّه علماء الكلام والعقيدة على ذلك، كالشيخ الطوسي (رحمه الله) حيث قال: (وإعلام المُكَلَّف وجوبَ الفعل أو حُسنه أو دلالته عليه شرطٌ في حُسن التكليف من الله)(٢)، وذكر العلّامة الحلّي (رحمه الله) أيضاً في تعريف التكليف وبيان حدّه: (إرادة من تجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه المشقّة بشرط الإعلام... وشرَطنا الإعلام لأنَّ المُكَلَّف إذا لم يعلم إرادةَ المُكَلِّف - اللهُ سبحانه - بالفعل لم يكن مُكَلَّفاً)(٣).
وصفة العِلم في علم العقيدة هي من الصفات التي يجب أن يتّصف بها الإمام المعصوم المنصوب بحيث (يجب أن يكون الإمام عالماً بتدبير ما هو إمامٌ فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل... وإنّما يجب أن يكون الإمام عالماً بما أُسند إليه في حال كونه إماماً)(٤)، وأنَّ القضاء على الظلم والفساد وبسط القسط والعدل هو من جملة ما أُسنِدَ إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تحقيقه في وقت ظهوره الموعود.
ولا ينحصر طريق الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى العلم بوقت ظهوره الشريف بإعلام الله تبارك وتعالى إيّاه، مع غضّ النظر عن نوع هذا الإعلام أو الإذن الإلهي وحياً أو إلهاماً أو تحديثاً ملائكيّاً أو غير ذلك كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات، والتي سنذكرها في ثنايا البحث، بل هناك سُبُلٌ أخرى ومنها زوال الموانع الظرفيّة وتحقّق الشروط الواقعيّة، بما يمكن التعبير عنها في علم الكلام بزوال العلّة المقتضية للغيبة، فضلاً عن عِلمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت المعلوم للظهور من طريق آبائه المعصومين (عليهم السلام) (فهو يتّبع في ذلك ما شُرِّعَ له وأُوقف عليه)(٥).
وأشار الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى هذه السُبُل في جانبي النقل والعقل معاً، حيث قال: (فإنَّه ما دامت العلّة الموجبة حاصلة فإنّه مُستترٌ إلى أن يعلم الله تعالى زوال العلّة، فيعلم ذلك بما وقفه عليه آباؤه من الوقت المعلوم، وبالأمارات اللائحة للنصر، وغلبة الظن يقوم مقام العلم في ذلك، وخاصة إذا قيل لكَ: إذا ظهرت لكَ أمارات النصر فاعلم أنّه وقت الخروج، وكلُّ ذلك جائز)(٦).
والروايات أشارت إلى البسط في العلم وتحقّقه للإمام المعصوم وحصوله بإعلام الله تعالى له، فعن معمّر بن خلاّد قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل من أهل فارس فقال له: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يبسط لنا العلمَ فنعلم، ويقبض عنّا فلا نعلم»، وقال: «سرّ الله (عزَّ وجلَّ) أسرّه إلى جبرئيل (عليه السلام) وأسرّه جبرئيل إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأسرّه محمّدٌ إلى من شاء الله»(٧).
والحاصل:
إن علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبحسب هذه المرتكزات العقديّة القرآنية والروائية، والتي يستند إليها الإمام نفسه في حراكه التغييري والإصلاحي قابلاً لإدراك وقت الظهور وتعيينه بالإذن به من عند الله سبحانه، ولأنَّ نفس العلم اللدني بالظهور هو من وسائل التمكين والقدرة المحفوفة بالإرادة الإلهيّة والتسديد، فضلاً عن أنَّ العلم بالوقت وحيثيّاته والظروف المحيطة به هو من جملة ما يحتاجه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فعلاً للنهوض بالوظيفة الكبيرة والخطيرة لما يتوفّر عليه (عجَّل الله فرجه) من الاستعداد الذاتي والإمكان في تلقّي العلم والإلهام الربّاني، وهذا ما نبّهت عليه الآية القرآنية الشريفة في قوله تعالى: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾.
وكذلك بيّنت الروايات هذا المعنى، كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: ٣٥)، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: ٢٦٩)، وقوله في طالوت: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: ٢٤٧) - وإنَّ العبد إذا اختاره الله (عزَّ وجلَّ) لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلمَ إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيّد، موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»(٨).
وطبقاً لمضمون هذه الرواية فقد يتحقّق علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره بطريق الإلهام الربّاني(٩) (وألهمه العلمَ إلهاماً) أو بما يُسمّى بالعلم اللدني، والذي يتحصّل من الإلهام أيضاً دون واسطة، بحيث يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند زوال علّة الغيبة أنَّ وقت الظهور قد حان، ومن المعلوم أنَّ الإلهام هو أحد مصادر العلم والمعرفة، وهو طريق حاصل ومتحقّق في حقّ الإمام المعصوم (عليه السلام)، فعن علي بن يقطين قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): علمُ عالمكم استماعٌ أو إلهامٌ، قال: «يكون سماعاً ويكون إلهاماً ويكونان معاً»(١٠).
وأيضاً يمكن أن يكون علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره من طريق إمكان العلم بالشيء المُرَاد والمُنتَظَر والموعود إذا شاء الإمام أن يعلمه بإعلام الله تعالى له فعلاً وإحداثاً، وهذا المعنى وارد في الروايات، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ، يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: «لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ»(١١).
وثمة أمر مهمّ ينبغي التنبيه عليه، وهو: أنَّ نفس علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف، وبأيّ صورة ممكنة التحقّق والوقوع، يتداخل ويرتبط مع ما ذكرنا من ضرورة زوال الموانع المقتضية للغيبة على مستوى شخصه المقدّس، كزوال الخوف من القتل، أو على مستوى الظروف العامة للوقت والمكان والإنسان والدول والمجتمعات والقدرات والقواعد الموالية والمؤهَّلة لنصرته، ومدى مناسبة ذلك كلّه مع ما يجب القيام به من القضاء على الظلم والفساد وبسط العدل والحقّ والأمان والهدى والإصلاح، وتأسيس الدولة العادلة في الأرض قاطبةً.
فالعلم بالظهور ليس علماً فجائيّاً يحدث دون أن ينظر في ملابسات الواقع وحيثيّاته الإعدادية وقابلياته الفعلية، فقد يكون محفوظاً ومعلوماً من ذي قبل في ذهن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحاضراً عنده، بمعنى العلم المبذول(١٢) بحسب تعبير الروايات بوصفه من خواصِّ خَلق اللهِ تعالى، ولكّنه (عجَّل الله فرجه) ينتظر تحقّق كلّ ما له دخالة في إنجاح مشروعه، من يقينيّة استجابة المخلصين قادةً وأفراداً وتحقّق قدرتهم الفعلية على الامتثال والطاعة والبذل بين يدي الإمام نفساً ومالاً وغير ذلك، وهذا المعنى ظاهر في مضمون الروايات المأثورة، فعن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام): «يجتمع إليه من أصحابه عدّة أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: ١٤٨)، فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد، وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)»(١٣).
تعليق