ت
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
(وإنَّ حُبّنا ليسَاقِط الِذنوبَ مِن بَني آدم كمَّا يُسَاقط الريحُ الورقَ من الشجرِ)
مِن بين صفحاتِ التاريخ وسطوره تتجلّى حروفٌ مِن ذهبٍ، لم يَطلها غبارُ السنين، بل لا تزال ببريقها تَخطِف الأبصَار، كلمَّا وقَعت عليها العيون، هي دونَ كلامِ الخَالقِ وفوقَ كلامِ المخلوقينَ، هي أجمل ما نطق بهِ مُتكلمٌ، وأشرَفَ ما خطّه قلمٌ، وكيفَ لا تكون كذلك وقد تفوهَ بهاَ من عُصِمَ مِن الزَللِ، وكانَ المُستَودعُ لحكمةِ البَاري عزّ وجَل.
ذلك هو الإمام الحَسَن المُجَتبَى (عليه السلام)، الذي امَتازَ ببلاغته وفصاحتهِ على سائرِ البشر،كأبيه عليّ المُرتَضَى عليهما السلام، مِن دونِ تصنّعٍ أو تَكَلف في إظهارِ ذلك بكلماتهِ أمام النَّاس، وحتَّى في خَلَواتهِ معَ نفّسه حينَّما يُناجي ربهُ، لأنَّ ذَلك نَابعٌ مِن طبيعتهِ الذاتية ونشأتهِ النَقية، وإلّا لمَّا كانَ هو وأهلهُ الكرامُ عِدلَ الكتاب المُبين، وحجّةَ ربَّ العالمينَ، سِواءٌ في حالِ تشريع الأحكامِ، أم في جانبِ الوعظِ والارشاد، فكلهم نورٌ واحد، ومنطقهم لا يتعارض معَ مَنطقِ الآخر، ولهذا كانت أقوالهم أرقَى الأقوال، وعباراتهم مَضرباً للأمثالِ، كما قول أبي محمّدٍ الحَسَن المجتبى: ( وإنَّ حبنَّا ليسَاقِطَ الِذنوبَ مِن بَني آدم كمَّا يُسَاقط الريحُ الورقَ من الشجرِ).(١)
في هذا القول أوجه قيميَّة، لا تخلو من براعة علمِ البيانِ، الذي يُعتبر أحدَ العلوم البلاغية الثلاثة، بما فيها علمُ المعاني،وعلمُ البديع.
وقد عُرّفَ علمُ البيانِ في اللغة: بالظهورِ والكَشف - وأمّا اصَّطَلاحاً فهو اُصول وقواعد يُراد بهاَ معرفةُ المعنى الواحد بطرقٍ متعددة وتراكيبٍ مُتفاوتة، ولهذا العلم أقسام متعددة، لسنَّا بصددِ ذكرها هنا، بل نَذكر أربعة منَّها، تُناسِب قولَ الإمام الحَسَن، عليه السلام، وهي:
1 - التَشبيه المُرسَل 2- التَشبيه المُفصَّل 3- الكَّناية 4- المَجاز المُرسَل .
ويكون التَشبيه المُرسَل مُرسلاً لوجودِ أداة التَشبيه، وهي الكاف التَي في كَلمة (كما) في قول الإمام (وإنَّ حبنَّا ليسَاقط الذنوبَ مِن بَني آدم.....) .
وسُمي بالتَشبيه المُرسل لإرساله عن التأكيد، ولأنَّه لمَّ يخلُ من أداة التشبيه. ثَّم أنَّ الإمامَ قد استخدم القسم الثاني مِن علمِ البيانِ الذي هو، التَشبيه المُفصَّل(بكلمة يساقط) ليجعل منَّها وجهَ الشَبه، بعد أن صَرّحَ فيهِ بذكرِ وجهِ الشَبه نصّاً.
وكمَا أنَّ لفظة (يسَاقط) تُوجد فيها كنايةٌ، والكنايةُ هي: القسم الثالث من علمِ البيانِ، ومعنَّاها لغةً: التَكلم بمَّا يُراد بِه خلاف الظاهر.
وأما اصّطلاحاً: فهي تَعبير لا يُقصَد منهُ المعنى الحقيقي، وإنَّما يُقصَد بهِ معنى مُلازم للحقيقي، وللكناية أنواع ثلاثة هي: كناية عن صِفة وكناية عن مُوصوف، و كناية عن نِسبة، ولكل نوع منها تَعريف خاص، وما نحتاجهُ هنا في قولِ إمامنَا الحَسَن، هو النَّوع الأخير، أي الكناية عن نسبةٍ، وسُميَت بهذا الاسم، لأنَّها تُشير إلى الموصوفِ وصفتهِ، ولكنَّها لا تُنسَب إليه بشكلٍ مباشر، بل تُشير إلى شيءٍ يدل عليه أو يرتبط بهِ، كنسبة زوالَ الذنوبِ ومحوها بالتسَاقطِ .
ومِن الكناية إلى قسمٍ آخر مِن أقسام علمِ البيانِ، وهو المجَاز المُرسَل، والذي عُبّرَ عنّه بأنّهُ لفظٌ استُعمل في غيرِ ماَ وضع لهُ لعلاقة غيرِ المشابهة، ويجب أن تكونَ هناك قرينة تمنع من إرادة المعنى الاصلي للفظ.
ولهذا المجاز علاقاتٌ كثيرةٌ نقتصرُ على أحدهاَ، وهي علاقة المُسَببيِّة، كمَا في قولِ الإمام الحسن: (وإنَّ حُبّنا ليساقط الذنوب...) فالحبُّ بنفسه لا يسقطُ الذنوبَ، بل لا بُدّ من مُسببٍ واقعي، وهو العمل الصالح النابع من الحبّ والولاءِ الصادق والخالص لأهل البيت المعصومين، عليهم السلام، بحيث يقومُ بفعلِ الاسقاطِ في النتيجة، كما هي الريح تسقط الورقَ من الشجرِ، ولهذا جعل من الحُبِ مُسَبِّباً لإسقاطِ الذنوبِ.
كمَا أنَّ هذا المُسَبِّبَ لهُ الفضل بالإشارة إلى شيءٍ من بلاغة الإمام الحَسن عليه السلام، وبالخصوص في الأوجهِ البلاغية مِن علمِ البيانِ.
________________________(١)الأختصاص ، المفيد ،ص ٨٢