الهاجس هو إحساس بتنويعات مختلفة، ولا يمتلك تعريفاً واضحاً متفقاً لمعناه، لكن يتفق جميع النقاد على أن الإبداع الحقيقي هو من بعض صناعة هذا الهاجس، لكونه يأتي من لحظة حسية، ويتكون بشكل يرتبط بتأثير (تجربة وموهبة المبدع)، ويعني إن الهاجس يتكون من التجربة المعاشة ومن تأثيرات (البيئة-الناس-الوقائع-الأحداث) وما يحمله المبدع من مسؤولية تحفـّزه للوثوب وسط اغترابه ومعاناته وسعيه المثابر لتمثيل الذات المؤمنة، كقوله عليه السلام: (فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي ولَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لا أَعْرِفُهُ ولا أَظُنُّ الله يَعْرِفُهُ) بقدم مثل قدمي: جرت وثبتت في الدفاع عن الدين، والسابقة: فضله السابق في الجهاد، وأدلى إليه برحمه: توسل، وبمال دفعه إليه، وكلا المعنيين صحيح.
ولهذا تختلف مكونات الهاجس وتأثيراته من مبدع لآخر، نتيجة (الموقع الاجتماعي، ورهافة الحس، والبنية التكوينية) ولذا حاول الإمام علي (ع) أن يفسر لمتلقيه خفايا الواقع، ويرشده الى الصواب، ويحفزه إلى موقف صبور، وليدوّن لنا تأريخاً صادقاً تحدى كل موبقات التحريف، فمن كتاب له عليه السلام لمعاوية: (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ ورِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ نَمَّقْتَهَا بِضَلالكَ وأَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ وكِتَابُ امْرِئ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ ولا قَائِدٌ يُرْشِدُهُ قَدْ دَعَاهُ الهَوَى فَأَجَابَهُ وقَادَهُ الضَّلالُ فَاتَّبَعَهُ) الموصلة: بصيغة المفعول ملفقة من كلام مختلف، وصل بعضه ببعض على التباين، كالثوب المرقع، ومحبّرة: أي مزينة، ونمقتها: حسنت كتابتها، وأمضيتها: أنفذتها وبعثتها.
يرى معظم النقاد إن مساحة الهاجس تتسع لاحتواء عوالم إبداعية وأخلاقية، ولهذا يحتاج المبدع إلى هاجس آخر يسميه النقاد (هاجس التوصيل) الذي من خلاله يوصل الحقيقة إلى المتلقي ويمنحه رؤاه، ولو ناقشنا هذه المسألة على مستوى إبداعنا الحالي، سنجده اعتنى في كثير من ثناياه بهاجس الإبداع، لكنه فقد الهاجس التوصيلي، وابتكر حجة النخبوية لاهتمامه بموحيات التعبير
فالمبدع عندما يهتم بتجسيد (تجربة – واقعة – موقف) تجسيداً حيوياً لا بد أن يتناغم مع العمق والبعد الفني، ويتخطى تعقيدات التشكيل اللغوي، والملاحظ أن الاهتمام بهاجس التوصيل والإقناع لم يؤثر على فاعلية نهج البلاغة إطلاقاً، لكونه قد تناغم مع الأبعاد الفنية، متجاوزاً الإشكالات النقدية، التي ترى من توارد المشاعر المكتنزة سبيلاً للضبابية، وصعوبة الالتقاط، وهو ما يسميه النقاد بـ(المأزق الإبداعي) ويعني غياب المتلقي، ويتجلى هذا الإقناع في قوله عليه السلام: (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً ولَيْسَ أَمْرِي وأَمْرُكُمْ وَاحِداً إِنِّي أُرِيدُكُمْ لله وأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأنْفُسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وايْمُ الله لأنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ ولأقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وإِنْ كَانَ كَارِهاً) الخِزامة بالكسر: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير، يشد فيها الزمام ويسهل القيادة.
ورغم ذلك فإن بعض المدارس النقدية لا تأتمن رأي المتلقي إطلاقاً، مع العلم أولاً: إن جميع المدارس النقدية وعلى اختلافها أقرّت حضور المتلقي في نهج البلاغة حضوراً متأصلاً لكونها تؤمن بالخطابات الجماهيرية الشفهية، لحضور المتلقي مستمعاً، وبعدها متأثراً بحالات التوارد.
ثانياً: إن الإمام علي عليه السلام ما كان يستعرض موادا فنية تعبيرية بلاغية، إنما كان يعرض للناس قضية فكر ورؤى وإيمان ومحاور مبدئية، تستنهض قيم الخير، يراها (جون كوين) إيقاظ المتلقي بهواجس خاصة من الفهم الواعي، كقوله عليه السلام في عهده إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر: (فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ولا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ)
آسِ: أمر من آسى بمد الهمزة أي سوّى، يريد اجعل بعضهم أسوة بعض أي مستوين.
وبعض المدارس النقدية الأخرى ترى: إن هواجس الوعي تقوّض بنية التلقي المسؤول، ولا يخدم الإبداع، بينما (رولان بارت) يعتبرها الميزة الأساسية للمبدعين، فمن مستكملات الهاجس المبدع هو حضور المعنى الأسمى الذي يستوعب الوعي العام المتلاحق للأجيال، كقوله عليه السلام: (نَحْنُ الشِّعَارُ والأَصْحَابُ والْخَزَنَةُ والأَبْوَابُ ولا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلا مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً) والشعار: ما يلي البدن من الثياب والمراد بطانة النبي (ص).
فهاجس المسؤولية يشغل الكثير من
جمالية الإبداع المؤمن بارتباطه الوجداني بالله سبحانه وتعالى وامتداده إلى حاضرٍ احتواه الإمام علي (ع) بإدراك مستقبلي، ولهذا نجد احتواءه على جمالية غيبية فسّرت النتاج الرسالي بمزايا نبوءات إمام معصوم أصرّ البعض على إنها رؤى صوفية، بينما هي حالة الذوبان في المعنى الأسمى (الهاجس الذهني) وتعني الرؤية التي هي عمق فكري مركب (وجداني – إدراكي)، فمن كلام له عليه السلام يخبر به من الملاحم بالبصرة: (يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ ولا لَجَبٌ ولا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ ولا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ يُثِيرُونَ الأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ والدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ وخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ ولا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا وقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا ونَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا) قال الشريف: يومئ بذلك إلى صاحب الزنج. اللجب: الصياح، واللجم: جمع لجام، وقعقعتها: ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل. والحمحمة: صوت البرذون عند الشعير. وعر الفرس أي: صوته، عندما يقصر في الصهيل ويستعين بنفسه، والسكك جمع سكة: الطريق المستوي وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق من تخريب من حواليها من البنيان على يد صاحب الزنج.
علي حسين الخباز
تعليق
مشاركة