ب.
حينما تمتزج حقائق التأريخ بقصص الخيال، ستأتي تلك الحقائق مشوّهة بالتأكيد، لكننا حين نسلط الضوء على الخليفة العباسي هارون الرشيد، لن نجد احدا يشذّ عن القاعدة التي تدينه كحاكم مسرف في الترف والملذات، وأنه لا يعرف إلا اللهو وشرب الخمور ومراقصة الغانيات.
الا ان الأمر لا يخلو ممن يبتغون تلميع بعض الحكام، واعطاء بعض المقبولية لكي يتم تمجيدهم فيما بعد.
فالمأثور عن هارون قوله حين رأى سحابة مارّة، وهو واقف في شرفة قصره : امطري حيث شئتي فان خراجك سيأتي اليّ.
يأتي احد هؤلاء ممن يلمّعون الطغاة، فيحيطونه بقداسة زائفة فيقول :
(في عهد هارون الارشيد أصاب الناس قحط لقلة المطر .. تضرر الزرع والضرع وضاقوا ذرعاً .. فاشتكوا الى الخليفة فما كان منه إلاّ أن طلب منهم أن يصلوا صلاة الاستسقاء .. ففعلوا وبعد أن أنهوا صلاتهم أخذوا ينظرون الى السماء عسى أن يروا سحاباً ثقالاً قريباً من الأرض يمطرهم بوابل أو طلّ، ولكن السحاب كان عالياً جداً وتسوقه الرياح إلى بلد آخر وهذا ما زاد في إحباطهم، فتوجهوا الى الخليفة هارون الرشيد يشكون إليه ما هم فيه من بلاء وكرب، فماذا كان رد فعله ؟ رفع رأسه إلى السماء مخاطباً الغيوم المُساقة إلى بلد آخر خارج حدود بلدهم وقال مقولته المشهورة : امطري حيث شئت ... فخراجك الي!!
والسؤال : منذ متى اصبح هارون الرشيد قبلة للرعية، تتوجه اليه في ساعات العسرة والشدة؟ ومتى كانت ابواب قصوره مفتوحة للراغبين والطالبين وليس لمرة واحدة بل مرتين كما في التدليس أعلاه ؟! وكيف ترك الناس أئمة العدل، وتوجّهوا الى أئمة الجور لحلحلة مشاكلهم؟ وهل كان هارون الرشيد ممن تقع عليه مسؤولية طلب الاستسقاء، وهو الذي اشتهر عنه فساده وطغيانه وقتله لأحفاد الرسول وسجنه للاولياء الصالحين، كما ان عصره الذي وصفوه بالذهبي، لم يكن سوى عصرا ظلاميا، استبيحت فيه المحارم والاموال، حتى ذاع صيته في البلدان انه اكثر الخلفاء العباسيين بذخا واسرافا بأموال المسلمين .
ها هو التأريخ يذكر لنا صورة واحدة من صور بذخ واسراف الحاكم لما تزوجت زبيدة من هارون الرشيد سنة 165هـ ، وكان ذلك في خلافة المهدي ببغداد. و قد كان يوم زفافها أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، ففي أثناء مرور موكبها نثرت عليها اللآلئ الثمينة مما أعاق سيرها، كما فرشت الطرقات بالبسط الموشاة بالذهب) وايضا (لما تزوج هارون العباسي بالسيدة زبيدة صنع وليمة لم يصنع مثلها في الاسلام، فقد جعل الهبات غير محصورة، فقُدّمت أواني من الذهب مملوءة بالفضة، وأواني من الفضة مملوءة بالذهب، و فوانج المسك و قطع العنبر، و كان هذا هو الاسراف و التبذير الذي حرمه الاسلام)
عجبا والف عجب ممن يحاول تشويه الحقائق، وإلباسها غير ثوبها، أليس مخاطبته للسحب الممتلئة ب : امطري انّ الخراج له وليس لخزينة الدولة، وهو دليل دامغ على طغيانه واستئثاره بخراج المسلمين؟! ما أشبه قوله هذا بقول أخيه فرعون مصر حين قال : (.... يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟) سورة الزخرف ٥١
أين هؤلاء من زهد علي عليه السلام حين يقول : ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقُرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد. فو الله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً).
بل أين حكامنا اليوم من هذا النموذج الأنصع
والذي لم يدخر جهدا لحفظ اموال المسلمين، بل انه يحمد الله حمدا كثيرا، بعد ان يقسم الاموال على رعيته بالتساوي، ويشكر الله الذي يعينه على اتمام مهمته.
هذا هو الإمام علي عليه السلام، إنه النموذج الحقيقي للإنسان بمختلف مسؤولياته ومستوياته، كما أنه النموذج الأعظم للحاكم الحق، والمسؤول الذي يدخل السلطة نظيفا فقيرا أبيض اليد، ويخرج منها مثلما دخلها تماما.
فما أعظمك يا أبا الحسن، وما أشد فخرنا بأبوّتك يا أبانا؛ وصدق من قال : أولئك آبائي فجئني بمثلهم.. اذا جمعتنا ياجرير المجامعُ.