المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يبدو أن النشاط المركزي لقراءة دعاء الصباح يرتكز على التفسير النصي، والمعنى الذي يبرز بين الوسيلة والمعنى، بين علاقة النص بما حوله، ومدلولات البنى الثابتة في عقولنا، والتي تحكمها قوة مبدأ مهيمنة.
فبلاغة أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو سيد البلغاء تضم أوجها كثيرة من المفردات العصية الفهم على إدراكنا (ألا اللهم أهل الاختصاص).
فمفرداته تحتاج فعلا للتفسير مثل (تبلجه -وضوحه)، (لجلجة - شدة الظلمة)، (تبرجه - الانكشاف)، ومنها تأتي الأبراج وهي التي تستكشف لارتفاعها.
(الأليل الأكثر ظلاما وهي صيغة تفضيل - زحاليفها بدايتها - الخرق الفعل غير السوي - بأزمة جمع زمام - النصب التعب)، أو لنأخذ جملة (والناصع الحسب في ذروة الكاهل: أيّ الواضح الأصل في ارتفاع الكتفين – الأعبل: المتماسكان)
لكننا نرى اللجوء للتفسير أمرا غير موضوعي ولو أردنا السير في هكذا منحى سنجد أن المدركات لا تكتفي بمجرد الوصف أو التفسير، ولا حتى بتقييم المنجز ولذلك نرى أن القراءات التحليلية قد تكون أصلب لأن اختلاف البُنى الاجتماعية والتراكيب البايولوجية من جيل إلى جيل أولدت مفاهيم أكثر جدية على مرور الزمن، ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين نشهد سمات وصفية أكثر رصانة في مفهوم قراءة أيّ نص أدبي، وصرنا نستخدم مصطلح الحداثة وهذا لا يعني وجود الأدب منحصرا في ما نكتبه الآن، بل علينا أن ننظر إلى ما ورثناه بنظرة ما توصلنا إليه، أيّ أن الحداثة تعني موضوعة تاريخية شاملة، فليس من حق أحد أن ينظر إلى الإرث الدعائي بنظرة قديمة أو على أنه شكل لغوي له طابع زمني معيّن، فالأجدر أن ننظر إلى الموروث الدعائي كشكل تأملي أكثر وعيا بالذات من أيّ شكل من أشكال الخطاب الأدبي رغم صعوبة المفردة أصبحت تمثل السعي المتواصل لاحتواء ذات المتلقي في زمن أو مكان للنظر إلى جملة (فَاْصْفَحِ اللّـهُمَّ عَمّا كُنْتُ (كانَ) أجْرَمْتُهُ مِنْ زَلَلي وَخَطائي وَأقِلْني مِنْ صَرْعَةِ رِدائي..)
أو لنتأمل جملة أخرى (اِلـهي قَلْبي مَحْجُوبٌ، وَنَفْسي مَعْيُوبٌ، وَعَقْلي مَغْلُوبٌ، وَهَوائي غالِبٌ، وَطاعَتي قَليلٌ، وَمَعْصِيَتي كَثيرٌ، وَلِساني مُقِرٌّ بِالذُّنُوبِ...) ونحن نعرف تماما من هو الإمام علي (عليه السلام) وندرك مدى عصمته من الزلل والخطأ، متيقنين من ماهية الطرح لمحتوى اجتماعي تاريخي ينطلق لا من معاناة ذاتية لأديب، بل من منطلق شعري يمثل قلق الناس واحتواء معاناتهم النفسية عندما ندخل إلى جملة (اَللّـهُمَّ يا مَنْ دَلَعَ لِسانَ الصَّباحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِهِ..) نلاحظ أولا قيمة هذا التبلج، فهو وضوح طبيعي فلم يكن معنى الضوء أستخرج من نار أو نور مصنوع، بل هو من ضوء صباح حقيقي، ونلاحظ أيضا وعي الصراع المتواصل بما يقابل الذات عبر الالتزام بالأداء الشعري لتمثيل كينونة الضد (وَسَرَّحَ قِطَعَ الّلَيْلِ الْمُظْلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجْلُجِهِ..) فالقوة التخيلية هنا مثلت ماهية الخالق باحتواء النقيضين، أي معنى هذا أن اللغة هنا تمسكت بالواقع التمثيلي واحتوت الذات.
لو نظرنا لتتبع الفني لاحتواء كينونة مستمرة للموضوع مثل جملة (وَشَعْشَعَ ضِياءَ الشَّمْسِ..) وحتى باقي المفردات (الواضح- الناصع) التي تجعل المعنى يبرز بحيوية أكثر وتخلق تماثلا في المسعى المتوخي للوحدة الشاملة لرأينا أن الحركة التكوينية لا تتخلى أبدا عن الصباح أو متعلقاته، فبين كل مقطع ومقطع يعود بشكل من أشكال الصورة المستنطقة لعقلية مناسبة لعقدة الموضوع، فنرى (فَاجْعَلِ اللّـهُمَّ صَباحي هذا ناِزلاً عَلَي بِضِياءِ الْهُدى..) ولو أردنا لخروج عن الموضوع قليلا لرأينا هذه الإزاحة تكون ما وراء التمثيلي، فالهدى هنا صورة حديثة تستنطق رؤى غير قصدية أيّ وجود هوية للبديل عند الإزاحة، فالهدى (قوة ذات) وهي تعني التبصر الحقيقي والانزياح هنا تجريدي يمثل أملا رمزيا لمسعى الصلاح، وعند الرجوع لجملة (تُولِجُ اللَيْلَ في النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ..) فهذا المرجع القرآني استحضر معالم ملامح الإعجاز لقدرات الإله واستخدم أيضا لتأكيد استمرارية الصورة لربط الموضوع، وكذلك (وَجَعَلْتَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِلْبَرِيَّةِ سِراجاً وَهّاجاً..) فنرى أن توأم المجازي والاستعاري للدعاء أولا غير متكلف وثانيا قيمة هذا الاشتغال هو الذي ارتقى بالدعاء إلى مصاف الشعرية فمثلا جملة (افْتَحِ اللّـهُمَّ لَنا مَصاريعَ الصَّباحِ بِمَفاتيحِ الرَّحْمَةِ وَالْفَلاحِ..) أكمل بها الجزء الأساسي المطروح، أي أنها الامتداد المعقول للمعنى، ويعني تجانس المعنى وبدورها منحت الموضوع عددا من المراكز الصورية، ولو تمعنا في مفردات مثل ( أرقدني – أيقظني - وكف أكف السوء عني) لتحسسنا أن مثل هذه الذاتية تستجيب لعكس الخصائص الفنية التي من شأنها تقوية الفاعلية لاحتواء متلقيها ليصبح ذلك الفعل حيويا باستخدام استعارات
شعرية مثل (مهاد أمنه – حبل الشرف – خلع الهداية – ينابيع الخشوع – زفرات الدموع – أزمة القنوع) ولنأخذ جملا شعرية مثل (قَرَعْتُ بابَ رَحْمَتِكَ بِيَدِ رَجائي) أو (وَعَلَّقْتُ بِأطْرافِ حِبالِكَ اَنامِلَ ولائي) ويمكن أن يكون للصباح معاني متعددة داخل منظومة اشتغال تمثيلي أكثر عمقا مثل (وَاَتْقَنَ صُنْعَ الْفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقاديرِ تَبَرُّجِهِ) ونلاحظ قيمة النعوت الوصفية التي منحت النص روحية الأسلوب وتجاوزت أحيانا الموضوع لمنح العلو والرفعة وتعميق الرؤيا مثل جملة (وَعَلِمَ بِما كانَ قَبْلَ اَنْ يَكُونَ) و (يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ) مما تقدم يمكننا أن نؤشر بعض الحقائق:
أولا: أن لغة الدعاء على الرغم من أنها تبتعد عنا هذا الزمن الطويل الا أنها لغة معاصرة كأن قائلها يعيش بيننا.
ثانيا: استطاعت مفردات الدعاء أن تتوغل في داخل النفس توغلا طبيعيا وبلا صنعة أو تكلف وهذا ديمومة الدعاء وسيرورته بين الناس على اختلاف عصورهم وشرائحهم الاجتماعية.
ثالثا: استطاع الدعاء أن يكون قريبا من متلقيه في الصورة الفنية والشعرية مرة، وبمعادلات موضوعية مرة أخرى من خلال الثنائيات التي كان يطرحها الإمام (عليه السلام) أو الطباقات بلغة البلاغة.
رابعا: أثبت الدعاء أن التراث مهما أبتعد عنا زمنيا يمكن أن يتعاصر لو وجد له ممن يقرأه بلغة معاصرة دقيقة وهذا سر بقاء هذا الدعاء وغيره من الأدعية أو المأثور سواء للإمام (عليه السلام) أو لغيره من رموزنا الإسلامية.
خامسا: أن معاصرة التراث تدلل على أن الاعتماد على مرتكزات غريبة عن تراثنا (غربية كانت أم شرقية) هو توكؤ سرعان ما ينهار إذا ما قرأنا تراثنا بصورته الحقيقية بعيدا عن التقوقع السلفي (أولا) وعن العقوق (ثانيا) لأنهما كلاهما يهدمان ما بنى لنا أسلافنا من تراث حضاري
علي حسين الخباز