سعى اغلب الشعراء الى استبدال المألوف لغاية فنية واعية، لكون هذا المألوف بات لايشكل قيمة جمالية مهمة، لتواكب تطورات الذائقة الجمالية والادراكية العامة، فأصبح من اللازم ترسيخ مفاهيم اخرى، تشغل هذه المنطقة المكتظة بالعادي، والمكرر، والمبتذل، باستثناء بعض التجارب الفردية المتماسكة، وصار من المهم الان التفكير جديا بما سيدخل من بديل.. عبر مخاضات تجريبية متنوعة، فالبعض حاول الاستعانة بالمذاهب التجريدية، ليعوض المساحة الابداعية المفقودة، الا ان المدرسة التجريدية عانت من غموض جوهري، وابتعاد عن الذات الانسانية المحورية والمعاش، واصبحت عبارة عن طلاسم لاتقدم شيئا من الهم العام، فهل مثل هذه السمات الابداعية تستطيع ان تكون بديلا شرعيا؟
لا اعتقد... لأن حجم التمرد على الكيان لا يطيق عنف الفوضوية المدمرة، التي تنهي علاقة الشعر بالصراع الانساني. بينما القصيدة هي محاولة لمد أواصر ما يقربها من كينونة التعبير، لكن مايجب ان ننتبه اليه ان بعض المحاولات استطاعت ايجاد البديل المناسب عن تلك المألوفية بقيم جمالية، تضمن الشعرية والاحتواء العام، الذي يقربها للناس كتجربة (صهيل الغاب) للشاعر المبدع (اياد حياوي الحفار) الذي استطاع عبر اداواته التعبيرية، من توسيع افق الدالة، بما ينطوي عليه الواقع، مستبدلا مألوفية الاشتغال بصور شعرية، تجتهد في خلق وتكوين معاييرها الخاصة، فدالية (حياوي) واضحة سهلة الاستيعاب، مثلا عندما يرمز لمدينته بما يرتديه، موازنة خفية للوني القداسة والحزن:
(كما عودتني ارتدي... لون المآذن والسواد) ص1 مزامير
بارتباطات العنونة الفرعية، حيث كان عنوان القصيدة (مزامير) سنصل الى اشتغالات ذهنية، لابد ان نقف عندها متأملين، فنحن امام جمل شعرية لاتحتاج الى فوضى تراكمية لغوية، اولا لإعادة الصياغة من قبل المتلقي، وكل ما نحتاجه هو النظر الى الكينونة العلاقاتية بين تلك المفردات:
(وأتيه في هذا الضباب... مصححا خطأ الاديم) ص2 مزامير
العمق النصي ذات مستويات واضحة، تكشف امكانية المنحى القصدي الذي سعى من خلاله الشاعر الى تحميل الجملة الشعرية معاني ابتكارية، فقد حاول ان يبعد تجربته من اخطبوط الغموض المفتعل، مما سهّل عليه حرية الحركة، لتتوضح اللعبة الشعورية دون ان يدخل في مناورات دلالية مكثفة، مكونة جفرا غامضة، تقطع الكثير من بنى التواصلية عن عملها، ومن دون الاحتياج الى ممازجة اشاراتية ذات انعكاسات تأويلية، منها مايصيب، ومنها ما يخيب، فاختصر الطريق ليمنحنا ماهو أهم من مثل هذه (المفبركات):
(قررت أن أهب السراب حقيقة... ما عاد يؤرقني، اذا الكابوس أفزعني، وأخرج من عباءته النيازك والرعود) ص2 مزامير
فقد حرك تقنيته الشعرية خلف كواليس النص، ليشكل نمطا من السهل الممتنع، وابدع من محاورها قرصات شعورية في نهاية كل جملة، لتحفز المتلقي لاعادة الجملة، فقد تتغير أحيانا كل حساباته الاستيعابية، وتكوّن دهشات خفيفة الظل، بشكل مفهوم:
(أضاء الصمت في ليل الغبار ظلي.. وساعة لحظتي وبرودة الجسد النحيف فريضة لمآذني) ص6 مؤونة الكلمات.
لأن ارتفاع منسوب الوعي دليل على ترسيخ المقومات الصحيحة لشعرية المنجز، من خلال بساطة التشبيه... المسألة هنا تحتاج الى وقفة تأملية جادة، فالكثير من المبدعين يحذرون التعامل مع فضاء غامض يشكل عوالم غرائبية، بل راح يحدد انزياح لغته على مستوى المفردة، ليصبح الكد الشعري واضحا:
(ربما قد ناشدتني الريح عن معنى اليباب...
ربما قد تطلب التفسير عن أقصى تعابير النزيف)
فعل البوح هنا غير متوقف عند حدود الحسي، فهو يتجاوزها الى عوالم متخيلة، ليؤكد (اياد حياوي الحفار) ابعاد جهده الشعري من تشويشات العرض القلق، واستوعب كامل التجربة في خلق صورة، تدب فيها الحياة، وكان بالفعل صهيلا يدل على نضج فني.
أعجبني
تعليق