اللهم صل على محمد وآل محمد
من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب [1]:
- "يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال :
- يا ابن رسول الله، وما هي؟
- قال: أمّا مصائده، فصدّ عن برّ الإخوان،
- وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله، أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى برّ الإخوان وزيارتهم، ويل للساهين عن الصلوات النائمين في الخلوات المستهزئين بالله وآياته في الفترات [2]،
- أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم" [3].
▫إنّ عداوة الشيطان للإنسان ذات جذور عميقة في التاريخ، ضاربة في القدم السحيق إذ نشأت يوم نشأ آدم وحوّاء عليهما السلام، ولذلك يُحذّرهما الله تبارك وتعالى، فيقول:
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [4]
وقال سبحانه في جليل خطابه:
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [5].
- وقد برزت هذه العداوة للوجود يوم أمر الله ملائكته بالسجود لأبينا آدم عليه السلام
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [6]،
وعمرت هذه العداوة التي ما مثلها عداوة كلّ هذا التعمير، ورافقتْ وجود الإنسان منذ نشأته الأولى إلى ساعته الحاضرة، وستُرافقه إلى يوم الوقت المعلوم،
- وقد أوحت (الأنا) للشيطان بهذه العداوة، وكان من نتاجها الحسد الواضح الجلي حينما ردّ على أمر الله له بالسجود!
- فقال:
﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [7].
دور الآيات والوصايا في المواجهة
قد جاءت الكثير من الآيات القرآنية مصرّحةً بعداوة الشيطان للإنسان،
- وبَيّن الله تعالى لنا فيها أنّ هذه العداوة قد اتخذتْ أساليب مختلفة وأشكالاً متباينة، ليتفطّن بنو آدم لمصائد الشيطان وكيده، وغروره وخداعه، وشراكه وأمانيه،
- ولكن العجب العجاب أنّ أكثر الناس في غفلة عن تنبّههم لهذه العداوة،
- بل إنّ الكثير منهم لمنساق بمحض اختياره تحت طوع وإرادة عدوّه.
فبالله عليكم ماذا يُقال عن قومٍ يملكون كلّ أسباب القوّة، ويعرفون كلّ أساليب الدفاع والمقاومة،
- ومع هذا فقد انقادوا لعدوّهم، وسلّموا رقابهم له، وغدتْ إرادتهم خاضعة بطوع اختياره يوجّهها حيث ما شاء! أليس هذا هو عين الجهل؟
- وكي لا تكون هذه المسيرة الجاهلة هي السائدة، وبالتّالي يكون الهلاك عاقبة بني البشر اتخذ أنبياء الله وأوصياؤهم الكرام عليهم السلام من الوصايا والعِبر والمواعظ وسائل تربوية لتنوير العقل والقلب، إذ بهما يعقل الإنسان ويعي أنّ الله قد خلقه حرّاً،
- فلا يصح أن يكون عبداً لغير بارئه،
- وفي هذا السياق جاءت وصايا الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام لتُخاطب ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلّعة إلى ما عند الله تعالى، أن يبذلوا جهودهم في تحرير عقولهم، وتطهير نفوسهم من الأفكار السلبية السيّئة التي إذا تبنّاها الإنسان وعمل بها أصبحت أدواء فتّاكة ورذائل خُلقية ملازمة له،
- ولا تتركه حتى تورده موارد الهلاك في الدنيا والآخرة،
- فتعالوا نقتبس من هذه الوصايا قبسات لعلّ الله ينوّر بها قلوبنا، ويُبصرّنا حقائق أنفسنا، ويهدينا إلى صراطه القويم
﴿هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [8].
برّ الإخوان
قال الإمام عليه السلام: "يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده،
قال: يا ابن رسول الله، وما هي؟
قال: أمّا مصائده، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله".
▫إنّ إمامنا الصادق عليه السلام عندما أوصى ابن جندب بهذه الكلمات كان ماثلاً أمام عينيه قول الله تعالى:
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [9]،
وكذلك قول جدّه الإمام زين العابدين عليه السلام:
- "إنّي لأستحي من ربّي أنْ أرى الأخ من إخواني، فأسال الله له الجنّة، وأبخل عليه بالدينار والدرهم، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنّة لك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل" [10].
وقد أوصى عليه السلام بهذه الوصيّة وهو يعلم أنّ الكثير من أهل الإسلام لا يطيقون مواساة الإخوان خصوصاً في الأموال، وهو الناقل عن آبائه الكرام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله:
- "ثلاثة لا تُطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله تعالى على كلّ حالٍ، وليس هو سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، فقط، ولكن إذا ورد على ما يحرم خاف الله" [11].
وقد وَجَّهنا أبو عبد الله الصادق عليه السلام، فقال:
- "اختبروا إخوانكم بخصلتين، فإنْ كانتا فيهم، وإلاَّ فاعزب ثم اعزب، ثم اعزب، محافظة على الصلوات في مواقيتها، والبر بالإخوان في العسر واليُسر" [12].
أخي المؤمن أختي المؤمنة: تأمّلوا هذا الحديث الشريف، وانظروا كيف جعل الإمام عليه السلام العلاقة مترابطة بين المحافظة على الصلوات، وبرّ الإخوان وجعل ذلك محلّ اختبار،
- فإنْ لم تكن هاتان الخصلتان موجودتين، فاعزب ثم اعزب ثم اعزب ـ لماذا؟
- إنّ هناك مصائد وشباك للشيطان.
نقل الأقدام الى برّ الإخوان
يتابع الإمام عليه السلام فيقول:
- "أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام الى برّ الإخوان وزيارتهم".
▫ إنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يحثّ موالي آل مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوصيهم بعد تقوى الله تعالى بالبرّ والمواساة للإخوان، ومن ذلك ما أوصى به صاحبه خيثمة الجعفي، فإنّ الرجل روى قائلاً: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام لأُودّعه، وأنا أريد الشّخوص، فقال:
- "أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأوصهم أنْ يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأنْ يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم،
- فإنّ في لقاء بعضهم بعضاً حياةً لأمرنا، ثم قال:
- رحم الله عبداً أحيا أمرنا، يا خيثمة، إنَّا لا نُغني عنهم من الله شيئاً إلّا بالعملِ، وإنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة رجلٌ وصف عدلاً ثم خالف إلى غيره" [13].
وروى جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعتُه يقول:
- "إنّ ممّا خصّ الله به المؤمن أن يعرفه برّ إخوانه، وإن قلّ، فليس البرّ بالكثرة، وذلك أنّ الله يقول في كتابه:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ [14]
ثم قال:
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [15]،
- ومن عرّفه الله ذلك، فقد أحبّه الله، ومن أحبّه الله أوفاه أجره يوم القيامة، بغير حساب،
- ثم قال: يا جميل اروِ هذا الحديث لإخوانك فإنّ فيه ترغيباً للبرّ" [16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. عبد الله بن جندب البجلي الكوفي: كان من العُبّاد الزهّاد الثقات، وقد مَنّ الله تعالى عليه بصحبة ثلاثة من أئمة الهدى الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، وكان وكيلاً للإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام ذا منزلة رفيعة عندهما، وقد شهد له الإمام الكاظم عليه السلام أنّه من عباد الله المُخبتين، يراجع كتاب الغيبة لشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص348، طبعة:1، دار المعارف الإسلامية، قم،
[2]. الفترة: مدة تقع بين زمنين، وقيل الضعف والانكسار، والمراد بها زمان ضعف الدين، والله تعالى أعلم.
[3]. الفقيه المُحدث الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص302، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
[4]. سورة الأعراف، الآية 22.
[5]. سورة يس، الآية 60.
[6]. سورة الحجر، الآيتان 30-31.
[7]. سورة الأعراف، الآية 12.
[8]. سورة التوبة، الآية 51.
[9]. سورة البقرة، الآية 268 .
[10]. الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص387، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.
[11]. الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، 358، طبعة:2، مؤسسة النشرالتابعة لجماعة المدرسين بقم.
[12]. الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص672.
[13]. الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص175-176.
[14]. سورة التغابن، الآية 16.
[15]. سورة الحشر، الآية 9.
[16]. الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص206.
------------------------
منقول
تعليق