بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ الله تبارك وتعالى يختبر عباده حسب عظم نفوسهم وقابلياتهم، فيبؤوهم ما يستحقون من المنازل الدنيوية والأخروية. قال نبينا (ص): "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت". فكان ابتلاؤه أعظم من ابتلاء من سبقه من الأنبياء والمرسلين سلام الله عليهم أجمعين.
وأما علي (ع)، فقد امتحن امتحانات تزيد من العد والاحصاء منها مبيته على فراش النبي (ص) وعرضه نفسه للقتل. ومنها برازه إلى عمرو بن ود الذي كان يعد بألف فارس في غزوة الخندق، وقد قال فيه رسول الله (ص): "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، وقال فيه أيضاً كما رواه الحاكم في المستدرك: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة". وقد روى الحاكم أيضاً انّ النبي (ص) قال: "قتل علي لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين".
وأما الحسين (ع) فقد امتحن بما لم يمتحن به من قبله ولن يمتحن به من بعده. والأئمة كلهم امتحنوا بامتحانات صعبة جدّاً لا يقوى عليها البشر العادي، ولا مجال لذكر ما امتحن به الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من امتحانات شاقة جدّاً يفر منها غيرهم.
وقد جاء في الحديث انّ رسول الله (ص) قال: "انّ أشد الناس بلاء النبيون، ثمّ الوصيون ثم الأمثل فالأمثل وانما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف دينه وضعف عمله، قل بلاؤه، والبلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض، ذلك: انّ الله عزّ وجلّ لم يجعل الدنيا ثواب المؤمن ولا عقوبة الكافر".
والامتحان أو البلاء إما أن يكون لزيادة الدرجات وبلوغ المنازل الرفيعة وهذا خاص بالأنبياء (ص) والأوصياء (ع) ثمّ الأمثل فالأمثل، واما أن يكون لتطهير النفوس مما علق بها من أدران وأوساخ: ذنوب وآثام. فهو تكفير لما اجترحت الأيدي من ظلم وبغي ولما قامت به النفوس من حسد وغيبة ونميمة وكل ما نهى عنه الدين.
فعن أبي جعفر (ع) قال: انّ الله عزّ وجلّ إذا كان من أمره أن يكرم عبداً وعليه ذنب، ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك به ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل ذلك به شدّد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب، وإن كان من أمره أن يهين عبداً وله عند حسنة صحح بدنه، وإن لم يفعل ذلك به وسع عليه رزقه، فإن لم يفعل به هون عليه الموت، فيكافيه بتلك الحسنة".
وعن أبي عبدالله (ع): قال: "إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها" وقال رسول الله (ص): "لا يزال الغم والهم بالمؤمن حتى لا يدع له ذنبا".
أنظروا كيف يأمرنا الإمام (ع) بمحاسبة نفوساً. فعن أبي الحسن الماضي (ع): قال: "ليس منا من لمّ يحاسب نفسه في كل يوم. فإن عمل حسنة استزاد الله عزّ وجلّ، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه".
إنّ العبد ليمتحن في كل يوم من حياته امتحانات عدة حسب قابليته واستعداده. فطوبى لمن وفق في امتحانات الله تعالى بعزم ثابت وإرادة قوية مستمداً التوفيق منه تعالى. فهذه هي الإرادة الحقيقية التي يجب أن تبحث عنها التربية الحديثة: وأن تعمل في تنميتها.
يقول أحد رجال التربية في الغرب: كان لي صديق وقد زرنا معاً الهند. فرأيته يغيب بعض الليالي. فسألته السبب قال: إني لأجد في إرادتي ضعفاً وأحب تقويتها. أخرج جوف الليل إلى الغابة أو إلى الصحراء وأبارز الأسد وبعض الحيوانات المفترسة وأهيئ ناراً إن أنا تأخرت عن إبقائها عليها ثانية واحدة كان في ذلك موتي المحتوم، وبهذا أجد مقاومتي للشدائد أصبحت أكثر من ذي قبل.
نعم، انّ هذا النوع من الأعمال التربوية تقوي الإرادة وانّ كتب التربية مشحونة بهذه الأساليب التربوية. ولكن للتوجيه أثراً عظيماً في مستقبل الإنسان الديني وتوجهه نحو خالقه أي في تكامل نفسه. فرُبَّ قوي الإرادة يصرف إرادته في أمور محرمة وأشياء تافهة.
إنّ الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (الزخرف/ 36-38). أو يصرف إرادته في دنيا محضة أي في تقوية جانب المادة مع إهمال جانب تكامل النفس: الأمر الذي وجد الإنسان على وجه البسيطة لأجله. فلو عنيت التربية بناحية التوجيه كما تهتم بناحية تقوية الإرادة لجمع الشاب بين سعادة الدنيا والآخرة. ولكن تربيتنا الحاضرة تربية مادية بنتائجها. تنظر إلى الحياة المادية كأنها الهدف الأسمى وتربي الشاب للتزود من هذه الحياة المادية وإن فسدت في الأثناء النفس وانحطت الملكات الأخلاقية والدينية.
وليس تكامل النفس بشيء يمكن قياسه بأسئلة إمتحانية تلقى على الطلاب في الإمتحانات النهائية، لأنها أعمال وملكات أكثر منها نظريات وعبارات أدبية. لذلك انحطت الأخلاق الاجتماعية والأخلاقية الإسلامية الموروثة: أغنى الصفات الإنسانية الكاملة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا فناب منابها مجاملات صورية لا تتجاوز الحنجرة وحركات الوجه.
يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7). قد خلق الله جل شأنه من النعم والمآكل والمشارب والملابس والمساكن ما يجذب الإنسان ببهجته وروائه فيطمع الإنسان فيها. ولا تتأتى كلها لكل شخص من مورد حلال طيب. فتغلب الشهوة وينقاد إليها الإنسان، فإذا به يفسد نفسه ويرتكب الظلم والبغي ليتزود من هذه النعم والمآكل ويتزين بأنواع الزينة فيرسب في هذا الاختبار النفسي العسير. انّ الله لم يحرم على الناس الاستفادة من نعيم الدنيا وزينتها وزبرجها إذا كان من مورد حلال شرعي واستعمل حسبما عينه الشرع: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-33). ففي هذه الدنيا يشترك المؤمن مع الكافر في التنعم بالطيبات من الرزق وزينة الدنيا الفانية، أما في الآخرة فيكون ذلك للمؤمنين خالصة خاصة بهم، بمقياس لا يحيط به العقل البشري.
فالدنيا بمظاهرها الخلابة وجمالها الفتان وأشجارها ونباتها ومائها وهوائها مواد للامتحان: (كالفيزياء والهندسة المجسمة وعلم الهيئة وحساب الاحتمالات و...)، ولا يقوى على ردع النفس عن الشهوات المحرمة إلا من أوتي يقينا صادقاً وتوجهاً خالصاً ولطفاً ربانياً: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد/ 17).
قد يصادف الإنسان في عنفوان شبابه مائدة خمر جلس عليها أصحابه فيلحون عليه بالشرب وهو يمتنع لطهارة أودعها الله تعالى فيه بالفطرة، ثمّ يلحفون عليه ثانية وثالثة والشيطان بالمرصاد، فهنا صراع بين العقل والنفس الأمارة بالسوء أو بالأحرى بين العقل (إن لم يحجب وبقى على فعاليته) وبين الشيطان. فإن غلب الشاب على أمره فقد سقط في هوة سحيقة. وإن تذكر أمر الله واليوم الآخر وعزم على الرفض واستعان بالله جلّ وعلا في خلاصه ونجاته فإنّ الله يهيئ له أسباب النجاة. وإن ارتداعه هذا في هذا الاجتماع الفاسد وكبحه شهوته بعزم رصين يفتحان عليه أبواب رحمة الله فيزداد بفضله هدىً وتقوى وصلاحاً. فقد جاء في الحديث: "لو مشى العبد نحوي شبراً لمشيت نحوه ذرعاً". وما من تقي إلا ويمتحن في حياته بإمتحان أو امتحانات نظائر هذا الامتحان.
كثيراً ما تقوى إرادة الإنسان على النجاح في أمور دنيوية ولكن نفس هذه الإرادة تراها مغلوبة تجاه الشهوات والمغريات، ضعيفة أمام محارم الله تعالى. فالإرادة كل الإرادة إذا استطاع المرء أن يكبح شهواته ويجعل رزقه من مورد حلال طيب. فإنّ الأموال المحرمة أو المشتبهة لها آثار سلبية في إتجاه الإنسان نحو خالقه وفي قمع الشبهات وحصول اليقين.
أرأيت مرابياً بلغ من الإيمان مرتبة تذكر، أم رأيت سارقاً تخشع نفسه عندما يسمع كلمات الله تعالى. ولا فرق بين السرقة وبين المتاجر المحرمة والمعاملات غير المشروعة والنجاح في مهمة باستعمال المكر والخديعة. فكل عضو من أعضاء الإنسان يمكن استعماله في حلال أو حرام. وهذا هو معنى الاختيار. فالعين يمكن استعمالها في الحرام بالنظر إلى أعراض الآخرين ويمكن صرفها عن الحرام بالتجنب عن النظر إلى المحرمات. فقد جاء في الحديث: "الأولى لك والثانية عليك". أي أنّ الله يغفرك لك النظرة الأولى التي جاءت عفواً وأنت آثم في الثانية مدنس فيها نفسك. واليد يمكن استعمالها في دع اليتيم وضربه ويمكن استعمالها في المسح على رأس اليتيم وأعمال صالحة أخرى كالكسب والعمل في المعامل وأمثال ذلك. وكذلك الرجل يمكن استعمالها في الذهاب للسرقة أو دور البغاء، وممكن استعمالها في حمل طعام إلى أرملة بائسة أو السؤال عن حال مريض معوز ومساعدته.
وقد بين الله تعالى كل ما من شأنه ارتقاء النفس وكل ما من ورائه إنحطاط النفس على لسان نبيه الأمي (ص): (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء/ 165). وقد أوصى النبي (ص) أمير المؤمنين علياً (ع) بهذه الوصية:
"سر ميلاً عُد مريضاً، سر ميلين شيع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخا في الله، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستة أميال أنصر المظلوم وعليك بالاستغفار".
قال الله تعالى: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال/ 42).
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ الله تبارك وتعالى يختبر عباده حسب عظم نفوسهم وقابلياتهم، فيبؤوهم ما يستحقون من المنازل الدنيوية والأخروية. قال نبينا (ص): "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت". فكان ابتلاؤه أعظم من ابتلاء من سبقه من الأنبياء والمرسلين سلام الله عليهم أجمعين.
وأما علي (ع)، فقد امتحن امتحانات تزيد من العد والاحصاء منها مبيته على فراش النبي (ص) وعرضه نفسه للقتل. ومنها برازه إلى عمرو بن ود الذي كان يعد بألف فارس في غزوة الخندق، وقد قال فيه رسول الله (ص): "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، وقال فيه أيضاً كما رواه الحاكم في المستدرك: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة". وقد روى الحاكم أيضاً انّ النبي (ص) قال: "قتل علي لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين".
وأما الحسين (ع) فقد امتحن بما لم يمتحن به من قبله ولن يمتحن به من بعده. والأئمة كلهم امتحنوا بامتحانات صعبة جدّاً لا يقوى عليها البشر العادي، ولا مجال لذكر ما امتحن به الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من امتحانات شاقة جدّاً يفر منها غيرهم.
وقد جاء في الحديث انّ رسول الله (ص) قال: "انّ أشد الناس بلاء النبيون، ثمّ الوصيون ثم الأمثل فالأمثل وانما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف دينه وضعف عمله، قل بلاؤه، والبلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض، ذلك: انّ الله عزّ وجلّ لم يجعل الدنيا ثواب المؤمن ولا عقوبة الكافر".
والامتحان أو البلاء إما أن يكون لزيادة الدرجات وبلوغ المنازل الرفيعة وهذا خاص بالأنبياء (ص) والأوصياء (ع) ثمّ الأمثل فالأمثل، واما أن يكون لتطهير النفوس مما علق بها من أدران وأوساخ: ذنوب وآثام. فهو تكفير لما اجترحت الأيدي من ظلم وبغي ولما قامت به النفوس من حسد وغيبة ونميمة وكل ما نهى عنه الدين.
فعن أبي جعفر (ع) قال: انّ الله عزّ وجلّ إذا كان من أمره أن يكرم عبداً وعليه ذنب، ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك به ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل ذلك به شدّد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب، وإن كان من أمره أن يهين عبداً وله عند حسنة صحح بدنه، وإن لم يفعل ذلك به وسع عليه رزقه، فإن لم يفعل به هون عليه الموت، فيكافيه بتلك الحسنة".
وعن أبي عبدالله (ع): قال: "إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها" وقال رسول الله (ص): "لا يزال الغم والهم بالمؤمن حتى لا يدع له ذنبا".
أنظروا كيف يأمرنا الإمام (ع) بمحاسبة نفوساً. فعن أبي الحسن الماضي (ع): قال: "ليس منا من لمّ يحاسب نفسه في كل يوم. فإن عمل حسنة استزاد الله عزّ وجلّ، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه".
إنّ العبد ليمتحن في كل يوم من حياته امتحانات عدة حسب قابليته واستعداده. فطوبى لمن وفق في امتحانات الله تعالى بعزم ثابت وإرادة قوية مستمداً التوفيق منه تعالى. فهذه هي الإرادة الحقيقية التي يجب أن تبحث عنها التربية الحديثة: وأن تعمل في تنميتها.
يقول أحد رجال التربية في الغرب: كان لي صديق وقد زرنا معاً الهند. فرأيته يغيب بعض الليالي. فسألته السبب قال: إني لأجد في إرادتي ضعفاً وأحب تقويتها. أخرج جوف الليل إلى الغابة أو إلى الصحراء وأبارز الأسد وبعض الحيوانات المفترسة وأهيئ ناراً إن أنا تأخرت عن إبقائها عليها ثانية واحدة كان في ذلك موتي المحتوم، وبهذا أجد مقاومتي للشدائد أصبحت أكثر من ذي قبل.
نعم، انّ هذا النوع من الأعمال التربوية تقوي الإرادة وانّ كتب التربية مشحونة بهذه الأساليب التربوية. ولكن للتوجيه أثراً عظيماً في مستقبل الإنسان الديني وتوجهه نحو خالقه أي في تكامل نفسه. فرُبَّ قوي الإرادة يصرف إرادته في أمور محرمة وأشياء تافهة.
إنّ الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (الزخرف/ 36-38). أو يصرف إرادته في دنيا محضة أي في تقوية جانب المادة مع إهمال جانب تكامل النفس: الأمر الذي وجد الإنسان على وجه البسيطة لأجله. فلو عنيت التربية بناحية التوجيه كما تهتم بناحية تقوية الإرادة لجمع الشاب بين سعادة الدنيا والآخرة. ولكن تربيتنا الحاضرة تربية مادية بنتائجها. تنظر إلى الحياة المادية كأنها الهدف الأسمى وتربي الشاب للتزود من هذه الحياة المادية وإن فسدت في الأثناء النفس وانحطت الملكات الأخلاقية والدينية.
وليس تكامل النفس بشيء يمكن قياسه بأسئلة إمتحانية تلقى على الطلاب في الإمتحانات النهائية، لأنها أعمال وملكات أكثر منها نظريات وعبارات أدبية. لذلك انحطت الأخلاق الاجتماعية والأخلاقية الإسلامية الموروثة: أغنى الصفات الإنسانية الكاملة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا فناب منابها مجاملات صورية لا تتجاوز الحنجرة وحركات الوجه.
يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7). قد خلق الله جل شأنه من النعم والمآكل والمشارب والملابس والمساكن ما يجذب الإنسان ببهجته وروائه فيطمع الإنسان فيها. ولا تتأتى كلها لكل شخص من مورد حلال طيب. فتغلب الشهوة وينقاد إليها الإنسان، فإذا به يفسد نفسه ويرتكب الظلم والبغي ليتزود من هذه النعم والمآكل ويتزين بأنواع الزينة فيرسب في هذا الاختبار النفسي العسير. انّ الله لم يحرم على الناس الاستفادة من نعيم الدنيا وزينتها وزبرجها إذا كان من مورد حلال شرعي واستعمل حسبما عينه الشرع: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-33). ففي هذه الدنيا يشترك المؤمن مع الكافر في التنعم بالطيبات من الرزق وزينة الدنيا الفانية، أما في الآخرة فيكون ذلك للمؤمنين خالصة خاصة بهم، بمقياس لا يحيط به العقل البشري.
فالدنيا بمظاهرها الخلابة وجمالها الفتان وأشجارها ونباتها ومائها وهوائها مواد للامتحان: (كالفيزياء والهندسة المجسمة وعلم الهيئة وحساب الاحتمالات و...)، ولا يقوى على ردع النفس عن الشهوات المحرمة إلا من أوتي يقينا صادقاً وتوجهاً خالصاً ولطفاً ربانياً: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد/ 17).
قد يصادف الإنسان في عنفوان شبابه مائدة خمر جلس عليها أصحابه فيلحون عليه بالشرب وهو يمتنع لطهارة أودعها الله تعالى فيه بالفطرة، ثمّ يلحفون عليه ثانية وثالثة والشيطان بالمرصاد، فهنا صراع بين العقل والنفس الأمارة بالسوء أو بالأحرى بين العقل (إن لم يحجب وبقى على فعاليته) وبين الشيطان. فإن غلب الشاب على أمره فقد سقط في هوة سحيقة. وإن تذكر أمر الله واليوم الآخر وعزم على الرفض واستعان بالله جلّ وعلا في خلاصه ونجاته فإنّ الله يهيئ له أسباب النجاة. وإن ارتداعه هذا في هذا الاجتماع الفاسد وكبحه شهوته بعزم رصين يفتحان عليه أبواب رحمة الله فيزداد بفضله هدىً وتقوى وصلاحاً. فقد جاء في الحديث: "لو مشى العبد نحوي شبراً لمشيت نحوه ذرعاً". وما من تقي إلا ويمتحن في حياته بإمتحان أو امتحانات نظائر هذا الامتحان.
كثيراً ما تقوى إرادة الإنسان على النجاح في أمور دنيوية ولكن نفس هذه الإرادة تراها مغلوبة تجاه الشهوات والمغريات، ضعيفة أمام محارم الله تعالى. فالإرادة كل الإرادة إذا استطاع المرء أن يكبح شهواته ويجعل رزقه من مورد حلال طيب. فإنّ الأموال المحرمة أو المشتبهة لها آثار سلبية في إتجاه الإنسان نحو خالقه وفي قمع الشبهات وحصول اليقين.
أرأيت مرابياً بلغ من الإيمان مرتبة تذكر، أم رأيت سارقاً تخشع نفسه عندما يسمع كلمات الله تعالى. ولا فرق بين السرقة وبين المتاجر المحرمة والمعاملات غير المشروعة والنجاح في مهمة باستعمال المكر والخديعة. فكل عضو من أعضاء الإنسان يمكن استعماله في حلال أو حرام. وهذا هو معنى الاختيار. فالعين يمكن استعمالها في الحرام بالنظر إلى أعراض الآخرين ويمكن صرفها عن الحرام بالتجنب عن النظر إلى المحرمات. فقد جاء في الحديث: "الأولى لك والثانية عليك". أي أنّ الله يغفرك لك النظرة الأولى التي جاءت عفواً وأنت آثم في الثانية مدنس فيها نفسك. واليد يمكن استعمالها في دع اليتيم وضربه ويمكن استعمالها في المسح على رأس اليتيم وأعمال صالحة أخرى كالكسب والعمل في المعامل وأمثال ذلك. وكذلك الرجل يمكن استعمالها في الذهاب للسرقة أو دور البغاء، وممكن استعمالها في حمل طعام إلى أرملة بائسة أو السؤال عن حال مريض معوز ومساعدته.
وقد بين الله تعالى كل ما من شأنه ارتقاء النفس وكل ما من ورائه إنحطاط النفس على لسان نبيه الأمي (ص): (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء/ 165). وقد أوصى النبي (ص) أمير المؤمنين علياً (ع) بهذه الوصية:
"سر ميلاً عُد مريضاً، سر ميلين شيع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخا في الله، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستة أميال أنصر المظلوم وعليك بالاستغفار".
قال الله تعالى: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال/ 42).
تعليق