ما هو عالم البرزخ وأين هو؟وكيف ومتى؟ وما هو الدليل لإثبات وجود هذا العالم بين الدنيا والآخرة؟ وهل يكون البرزخ للجميع، أم لمجموعة معيّنة من البشر؟ وأخيراً ماذا سيكون وضع المؤمنين والصالحين والكفّار والمسيئين فيه؟
قال السيد محمد حسين الطباطبائي الفيلسوف والمفسر المعروف في كتابه (الشيعة في الإسلام ص 140) عند كلامه عن (عالم البرزخ):
((.. ومما يستفاد من القرآن الكريم والسنّة, ان الإنسان يتمتع بحياة مؤقتة ومحدودة في الحد الفاصل بين الموت ويوم القيامة, والتي تعتبر رابطة بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى (انظر البحار ج 2 باب عالم البرزخ).. والإنسان بعد موته, يحاسب محاسبة خاصة من حيث الإعتقاد, والأعمال الحسنة والسيئة التي كان عليها في الدنيا, وبعد هذه المحاسبة المختصرة, ووفقاً للنتيجة التي يحصل عليها, يحكم عليه بحياة سعيدة أو شقية, ويكون عليها إلى يوم القيامة.
وحالة الإنسان في عالم البرزخ تشابه كثيراً حالة الشخص الذي يراد التحقيق معه لما قام به من أعمال, فيجلب إلى دائرة قضائية كي تتم مراحل الاستجواب والاستنطاق منه, لغرض تنظيم ملف له وبعدها يقضي فترة ينتظر خلالها وقت محاكمته.
روح الإنسان في عالم البرزخ, تعيش بالشكل الذي كانت عليه في الدنيا, فإذا كانت من الصلحاء, تتمتع بالسعادة والنعمة وجوار الصلحاء والمقربين لله تعالى, وإذا ما كانت من الأشقياء, تقضيها في النقمة والعذاب, ومصاحبة الأشرار, وأهل الضلال..
فالله جل شأنه يصف حالة بعض السعداء بقوله: ((وَ لاَ تَحسَبَنَّ الَّذينَ قتلوا في سَبيل اللّه أَموَاتًا بَل أَحيَاء عندَ رَبّهم يرزَقونَ * فرحينَ بمَا آتَاهم اللّه من فضله وَيَستَبشرونَ بالَّذينَ لَم يَلحَقوا بهم مّن خَلفهم أَلاَّ خَوٌف عَلَيهم وَلاَ هم يَحزَنونَ * يَستَبشرونَ بنعمَة مّنَ اللّه وفضل وَأَنَّ اللّهَ لاَ يضيع أَجرَ المؤمنينَ )) (آل عمران:169-171).. وفي وصف حالة مجموعة أخرى يقول تعالى: ((الذين كانوا ينفقون أموالهم وثرواتهم في مشاريع غير مشروعة في الحياة الدنيا, يصفهم بقوله تعالى: (( حَتَّى إذَا جَاء أَحَدَهم المَوت قَالَ رَبّ ارجعون * لَعَلّي أَعمَل صَالحًا فيمَا تَرَكت كَلَّا إنَّهَا كَلمَةٌ هوَ قَائلهَا وَمن وَرَائهم بَرزَخٌ إلَى يَوم يبعَثونَ )) (المؤمنون:99 - 100).
و جاء ذكر البرزخ في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، كلّها بالمعنى اللغوي المتقدِّم، قال تعالى:
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾،الرحمن19
و﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾،الفرقان53
و﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.المؤمنون100
فالقرآن الكريم أراد من هذا الاستخدام للفظ البرزخ أن يوضح أنّ هناك عالماً آخر يفصل بين الدُّنيا والآخرة، ولا بدّ للإنسان من المرور به كمقدّمة ليوم القيامة، وفي الرِّوايات ورد أنّ البرزخ هو القبر، وأنَّه عالم الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "البرزخ القبر، وهو الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة".
ولعالم البرزخ عقبات كثيرة وشديدة يمرّ بها الإنسان، روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنّ بين الدُّنيا والآخرة ألف عقبة، أهونها وأيسرها الموت"، والآثار البرزخية هي تبعات الأعمال وعواقبها وآثارها التي قام بها الإنسان في نشأة عالم الدُّنيا، وذلك حسب ارتباطه، بعمله، وتظهر هذه الآثار بما يتناسب مع طبيعة عالم البرزخ، وأنّ هذا العالم (البرزخ) محجوب عن الأحياء، فلو رُفع الحجاب لرأى الأحياء حياة أهل البرزخ، ولأدّى ذلك ربما إلى إقلاعهم عن ذنوبهم، وأنّ الحاجب بين عالم الدُّنيا وعالم البرزخ هو تعلّق الرُّوح بهذا البدن، وأنّ الحجاب يزول عند انفكاك هذا التعلّق، وهذا ما يصطلح عليه قبض الرُّوح.....
فملك الموت عزرائيل عليه السلام لا يأتي بصورةٍ واحدةٍ لكلِّ النَّاس، فالصورة إمّا قبيحةٌ وإمّا جميلةٌ، بل إنّ شدّة قُبح صورته، أو شدّة جمالها مرتبطةٌ بأعمال الإنسان في الدنيا، فإذا كانت أعماله صالحةً أتاه الملك بصورةٍ جميلة، وإذا كان مبتلىً بالرذائل والمعاصي أتاه الملك بصورةٍ قبيحةٍ.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ما من الشِّيعة عبدٌ يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّة تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته".
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله يشبِّه فيه الموت بالمصفاة، فيقول: "الموت هو المصفاة تصفّي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزرٍ بقي عليهم، وتصفّي الكافرين من حسناتهم، فيكون آخر لذّةٍ أو راحةٍ تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم".
وعليه فإنّ قبض روح الإنسان شدةً أو ضعفاً، وصورة الملك قُبحاً وحسناً مرتبطة بطبيعة الأعمال في نشأة الدُّنيا، والتي تظهر آثارها البرزخية من لحظة النّزع، وتستمر في كل عقبات البرزخ، فالإنسان لحظة سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها.
وإنّ لهذا المنزل أهوال عظيمة ومنازل ضيّقة ومهولة، يصعب تصوّرها على العقل البشري؛ ولذا شرحها لنا أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
تبدأ المنازل بوحشة القبر، فضغطة القبر، ثم المسألة في القبر وهكذا. ونحن نذكر هذه الأمور باختصارٍ شديدٍ للفت النَّظر إلى علاقتها بطبيعة الأعمال في عالم الدُّنيا، فالذّنوب والمعاصي تظهر آثارها في ذلك العالم.
وما يؤيّد هذا الأمر (أهوال القبر) ما ورد في الروايات من استحباب التمهُّل في إنزال الميِّت إلى قبره، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر؛ لأن للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة؛ ليأخذ أهبّته، ثم يقدّمه إلى شفير القبر".
وليست الوحشة حال جميع النَّاس لزاماً، بل هناك فئةٌ من النَّاس يؤمنُها الله منها، كما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين... وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين..." .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعمالٌ منجيةٌ من وحشة القبر:
ورد في الرِّوايات بعض الأعمال المُنجية من وحشة القبر، نذكر منها:
- ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
- الصدقة، وصلاة ليلة الوحشة.
- إتمام الركوع في الصلاة وأدائه بشكل مستقرمع الطمأنينة ودون عجلة.
ـ قراءة سورة يس فهي قلب القرآن الكريم.
ـ الصيام في شهر شعبان، وأقله صيام إثنى عشر يوما منه.
- عيادة المريض.
- صبر المرأة على زوج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمور المنجية من ضغطة القبر:
ورد في الروايات الشريفة أنّ هناك أعمالاً وأموراً تنجي أو تخفّف من ضغطة القبر، نشير إلى بعضها:
ـ زيارة الإمام الحسين عليه السلام.
ـ الحج أربع مرات.
ــ قراءة القرآن الكريم خصوصا يوم الجمعة.
ـ المداومة على صلاة الليل .
ــ رشّ القبر بالماء أو وضع جريدة رطبة.
ـــ الدفن في وادي السلام
قالَ الشّيخُ القمّيُّ عندَ تعرّضهِ للمُنجياتِ مِن ضغطةِ القبرِ: (الثّامنُ: الدّفنُ فِي النّجفِ الأشرفِ، فمِن خواصِ هذهِ التّربةِ الشّريفةِ انّهَا تُسقِطُ عذابَ القبرَ وحسابَ منكرٍ ونكيرٍ عَن مَن يُدفَنُ فيهَا).منازل الآخرة..
ولا بدّ من الإلفات هنا إلى أن ما ورد في الروايات لم يرد على نحو الحصر، أو على نحو العلّة التامة لكل عمل؛ بل لا بدّ من اجتماع أحد هذه الأعمال أو مجموعة منها مع التزام الإنسان بباقي التكاليف في الحياة الدنيا.
ــــــــــــــ
المساءلة في القبر:
إنّ المساءلة في القبر، وما يتبعها من الرَّحمة أو العذاب هي من الأمور القطعيَّة عند المسلمين عامَّة وعند أهل البيت عليهم السلام خاصَّة، حتَّى عدَّ الإمام الصادق عليه السلام منكرها خارج عن التشيُّع، الإمام الصادق عليه السلام: "من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا، المعراج، والمسألة في القبر، والشفاعة".
وحسب روايات أهل بيت العصمة والطهارة عليه السلام، يُسأل الإنسان عن أمرين أساسيين:
عقيدته: فيُسأل عن ربِّه ودينه ونبيه وإمامه، فقد رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام قال: "إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا أُدخل قبره أتاه مُنكَرٌ ونَكِيرٌ، فيقعدانه ويقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: ربّي الله ومحمّد نبيّي والإسلام ديني، فيفسحان له في قبره مدّ بصره. ثمّ قال عليه السلام: إذا مات الكافر شيّعه سبعون ألفاً من الزّبانية إلى قبره، وإنّه ليناشد حامليه بصوتٍ يسمعه كلّ شيء إلا الثّقلان،... فإذا أُدخل قبره وفارقه النَّاس أتاه منكر ونكير في أهول صورة؛ فيقيمانه، ثمّ يقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيتلجلج لسانه، ولا يقدر على الجواب، فيضربانه ضربةً من عذاب الله، يذعر لها كلّ شيء".
أعماله: يُسأل الإنسان - عند دخوله في قبره، وحضور الملكين عنده - عن أعماله، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يُسأل الميّت في قبره عن خمس: عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكنّ من نقص فعليّ تمامه".
من يسأل العبد في قبره؟
دلَّت الروايات أنّ الملائكة تنزل على الموتى في قبوره؛ فتسألهم عن الأمور التي مرّ ذكرها، فإن أجاب بالحقّ سلَّموه إلى ملائكة النعيم، وإن ارتجّ "حسب تعبير الرِّوايات بمعنى استُغلق عليه الكلام- سلَّموه إلى ملائكة العذاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث:
5- نور الثقلين، ج3، ص553ــ
6 - من لا يحضره الفقيه، ج1، ص362.
7- ق، 19.
8- راجع: منازل الآخرة، ص107(بتصرف).
9 - الأربعون حديثاً، ص470.
10 - بحار الأنوار، ج6، ص157.
13- مصباح المتهجد، ص562.
14- من لا يحضره الفقيه، ج1، ص170.
17- الكافي، ج3، ص130.
19 - بحار الأنوار، ج7، ص198.
20- 21 - بحار الأنوار، ج88، ص219.
21- بحار الأنوار، ج82، ص107.
23- وسائل الشيعة، ج6، ص247.
24- وسائلالشيعة، ج10، ص498.
25 - الكافي، ج3، ص120.
26 - وسائل الشيعة، ج 21، ص285.
27 - الكافي، ج3، ص236.
28- علل الشرائع، ج1، ص309.
29-
41 - وسائل الشيعة،ج16، ص312.
42 - بحار الأنوار،ج6، ص221.
43- مستدركالوسائل، ج10، ص 309، كامل الزيارات، ص271.
44- الأمالي، ص355.
45- الخصال، ص216.
46- ثواب الأعمال، ص105.
47 - بحار الأنوار، ج84، ص3.
48 - بحار الأنوار، ج87، ص161.
49 - الكافي، ج3، ص153.
50 - الكافي، ج3، ص200.
51 - مستدرك الوسائل، ج6، ص223.
52 - بحار الأنوار، ج6، ص222.
53 - الكافي، ج3، ص241.
54 - تصحيح اعتقادات الإمامية، ص98- 99.
اللهم نسألك الراحة عند الموت والمغفرة بعد الموت والعفو عند الحساب بحق أحب الخلق محمدوآله الأطياب آمين يارب العالمين
تعليق