
منهج الشيعة الامامية وحقيقة التعايش بين الأديان والمذاهب
نبيل نعمه الجابري
لم تعد الرحلات الاستشراقية هي تلك الدراسات التي يقوم بها المستشرقون الذين يقدّمون دراستهم عن الاسلام واللغة العربية والمجتمعات المسلمة من خلال توظيف خلفياتهم الثقافية وتدريباتهم البحثية لدراسة الحضارة الاسلامية والتعرف على خباياها لتحقيق أغراض الغرب الاستعماري والتنصيري، كما كان معهوداً لدى أغلب سكان الشرق حينما كان مفهوم صراع الحضارات قائماً لبقاء الأقوى من جهة والايمان من قبلهم بأن الشعوب المشرقية الموجودة تعاني من عدم اللحاق بالأمم المتقدمة والمتطورة من جهة أخرى، كون اغلب المستشرقين قد وعوا تماما الى الأخطاء التي وقعوا فيها جراء عملياتهم الاستشراقية في عصور مضت.
ونحن نعيش في عالم متمدن أصبحت فيه وسيلة الاتصال الانساني هي المعبّر عن تطور المجتمع وتخلفه فراحت الجهود الاستشراقية الحديثة تسعى لدراسة الفكر المعتدل بما يتوافق وبث مفهومات لها أكثر من بعد إنساني متجذر بعدما سعت التيارات الطارئة الموبوءة الى اختراق جسد الانسانية العالمي بأفكارها المسمومة، لهذا زار وفد يضم عددا من المستشرقين والاعلاميين العرب والموجودين في سويسرا العتبة العباسية المقدسة في زيارة لهم للعراق للاطلاع على واقع التعايش الانساني وكشف الحقيقة التي غيّبتها وسائل الاعلام المضللة، ونقلتها بخلاف الواقع خصوصا بعد سقوط اللانظام الدكتاتوري وبداية حقبة جديدة تمثل العراق الحر التعددي القائم على احترام الآخرين، وقد اطلع الوفد عن كثب على مجمل سير الاحداث السياسية الاجتماعية بعد لقائهم بممثل المرجعية الدينية في النجف الاشرف سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزه) وكان لهم أن يطرقوا أبواب موضوعات متفرقة تخص الدين والمذهب وعلاقة التعايش بين المذاهب واسلوب الحكم، والتعريج على علاقة الشيعة الامامية بالنظرية السياسية وفي ذلك تكلم سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزه) قائلاً:
أود في البدء أن أتعرّض لأمر مهم من أجل إزالة اللبس الحاصل في العالم العربي والاسلامي فيما يخص رأي الشيعة في العراق بنظام الحكم ووجهة نظرهم تجاه السياسة، فهناك آراء عدة تدخل في هذا المضمار أبدأها بالنموذج الأول الموجود في إيران، بمعنى أن المرجع (العالم الشيعي) يملك زمام السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، والفقيه هو من يملك الحق أولاً في إدارة حكم البلاد، هذا بإيجاز ما يعبّر عنه بـ(ولاية الفقيه)، وهناك إنموذج آخر مطروح في العالم العربي والاسلامي يعبر عنه بفصل الدين عن السياسة، وهو أن يجعل الدين في معزل عن السياسة، والسياسة تأخذ مجالها الرحب بعيدا عن الدين، ويبدو في إعتقادي الخاص أن المسألة لا يمكن أن تنحسر في هذين النموذجين وإنما هناك إنموذج ثالث وهو (التدين السياسي) الذي لا يعني بأي شكل من الأشكال ولاية الفقيه التي يُعبّر عنها بنظرة صحفية لا علمية (تسييس الدين)، هذا الانموذج يقع ما بين النوع الاول والنوع الثاني، وكأن المسألة تقع بين تسييس الدين وفصل الدين عن السياسة، فتدخل علمائنا في العراق بالجانب السياسي بمقدار ما يحفظ للبلد هويته وأطره من غير تدخل في تفاصيل العمل السياسي، هذا الانموذج يعطي حرية أوسع وأكثر مساحة للعمل بعبارة أخرى أن نجعل السياسة متدينة، فالاقتصاد يجب أن يُبنى على ضوابط ديننا الاسلامي الحنيف وكذلك الهندسة والطب والتعليم... ونحن في العراق عازمون على بناء مؤسساتنا القانونية والدستورية على هذا النحو.
كان هذا جواباً من سماحة السيد أحمد الصافي أمين عام العتبة العباسية المقدسة حينما توجه الاستاذ (أياد شرف الدين) الصحفي من تونس العربية إليه بسؤال عن نظرة الشيعة في العراق للسياسة، وهل هي تتوافق أم تتقاطع مع نظرة الشيعة للدين في إيران.
بعدها عقّب الأستاذ الدكتور (أسامة زيد) عضو مكتب الاداب في مصر العربية قبل ثلاثة عقود والمستشرق الساكن في سويسرا حالياً عن زيارته هو والوفد المرافق له الى العراق وبالتحديد الى الحوزة العلمية في النجف الاشرف وإطلاعهم على واقع ومنهجية التدريس في الحوزة المشرفة قائلاً:
من قبل كنا نسمع بعض الأشياء التي قرأناها في الكتب لكننا عندما جئنا الى العراق وزرنا النجف وإطلعنا عن كثب، ودخلنا في نقاشات الحوزة العلمية وحضرنا - مع كل الزملاء وطلاب العلم- الدروس رأينا ما يلفت انتباهنا متمثلاً بمنهجية الدراسة في الحوزة العلمية، فهي تعتمد على الطابع النقدي البناء، والمتمثل في خلق متلقي منتج لا إستهلاكي، يمتلك المعرفة وينقدها ويقول رأيه بدون خوف باسلوب يعتمد على الرأي والرأي الآخر لكن بطريقة أكثر علمية، وحقيقة هذا هو الامر الذي جعلني أهاب ارتقاء المنصة حينما طلب مني أن ألقي محاضرة عليهم في النجف الاشرف، ربما كان شيئاً جديدا يتمثل في معرفة رؤية الغرب لهم متمثلاً بنا نحن كمستشرقين، فالاستشراق ليس كما هو معهود عنه بأنه أساء الى الثقافة العربية، وإنما هناك الكثير من المستشرقين قدموا خدماتهم من أجل النهوض بالثقافة العربية وبشتى المجالات المعرفية والعلمية والاكاديمية من أجل التواصل والتفاعل الحي بين الحضارات وإستقاء المعرفة، فانطباعنا الذي حملناه أنا والاخوة ذلك الشعور الرائع الذي خالج صدورنا ونحن نرى ونعي ونسمع الاسلوب المنهجي الذي تتعاطى به الحوزة العلمية في تدريس موادها ذلك الاسلوب القائم على النقد الحي والاستجواب الممنهج، ورقي الثقافة سواء كان ذلك من خلال التلقي أم من خلال الحوار.
داخله سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزه) معقباً على كلامه لإيضاح صورة مفصلة عن واقع التدريس في حوزاتنا العلمية المشرفة قائلاً:
الدراسة في الحوزة العلمية تنقسم إلى ثلاث مراحل، فالمرحلة الاولى نعبر عنها بمرحلة (الاصول الموضوعة) التي لا تتطلب من الطالب سوى التلقي والانصات وإكتساب المعرفة الاولية التي تؤهله للدخول في المرحلة الثانية التي يكون فيها التلقي بطريقة أعمق الى أن ينتقل الى المرحلة الثالثة وفيها يتحرر الطالب من التلقي، ويبدأ بالدخول بالمناقشة مع الاستاذ الذي يجب أن يكون له رأي خاص في كل المسائل التي تطرح سواء كانت في التفسير أم في الاصول أم في العقائد أم في الفلسفة، وقوام هذه المرحلة مبني بالاساس على النقد والابرام لا يكتفى بالاشكال فقط، وإنما السعي لطرح البديل، ثم إن الدراسة في الحوزة العلمية لا تتقيد لا في زمان ولا في مكان ولا في عدد محدد، خلاف ما موجود في الدراسات الاكاديمية وحرية العمل التي تسير عليها الحوزة العلمية تنادي بها الان كل الجامعات الاكاديمية في العالم، وهذا ما نحن سائرون عليه منذ أكثر من ألف سنة لذلك خرج من الحوزة علماء وفضلاء في علوم وفنون شتى أفادوا الانسان والانسانية على مر الزمان.
ثم تحدث الدكتور المستشرق (قيس النابلسي) عن الدور الذي يقع على عاتق المستشرق الحالي من اجل نقل صورة وترجمة حرفية عن مذهب أهل البيت عليهم السلام واستفهم من سماحة السيد عن دور الشيعة والعملية السياسية قائلاً:
نحن من واجبنا كمستشرقين أن نقوم بترجمة حرفية للمذهب الشيعي في البلاد الاسلامية وإيصال المعنى الحقيقي والمحددات وأساسيات هذا المذهب، وما يتعلق بالمرجعية الدينية والاجتماعية والسياسية، ودور المرجعية الدينية في العالم السياسي وهذا يحتاج الى زيارات أخر للتوصل الى المعنى الوافي للمرجعية الدينية ودورها في العمل السياسي سواء كان من خلال المشاركة الفعلية أم من خلال الفتيا.
فأجابة سماحة السيد أحمد الصافي( دام عزه) عن ذلك قائلاً:
لقد كان الهدف من مشاركتي في الجمعية الوطنية كتكليف للمشاركة في إعداد الدستور العراقي لا كقضية محصورة بالجانب الديني ولا بغيره من الجوانب الاخرى ومنها الشخصية على سبيل المثال، على الرغم من ذلك وجدت إن من واجبي بعد التكليف بهذه المهمة أن أشارك في الاعداد لوضع دستور عراقي يحفظ حقوق الانسان العراقي يسير على الثوابت التي لا تبتعد بأي حال من الاحوال عن المسار الاسلامي الذي لا يتعارض مع التوجهات التي يريد ان يسير عليها العراق للمدة المقبلة.
وفي مداخلة للدكتور أياد شرف الدين تطرق فيها عن الاحتدام الاعلامي الذي يدور حول قضية مفصلية تعد من أهم أركان بناء عراق متنوع تمثل التعددية فيه المرتكز المحوري الذي تدور حوله مسألة التقريب بين المذاهب الاسلامية لا سيما بين الشيعة والسنة كفكرة دينية، وعن التصور الذي أظهرته وسائل الاعلام المختلفة والذي يصور الفهم الخاطئ من كون المسألة التي تحدث في العراق الجديد هي مسألة إنتصار لفئة على حساب أخرى، تحدث سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزه) عن الامر:
الموضوعية مسألة مهمة لنا في هذه الفترة من أجل أن نصل الى الحقيقة والمنهج العلمي هو الاخر مهم أيضا لكي نصل في النهاية إلى حقيقة مفصلية أسمها (الحق) بعيدا عن التطرف، فالمقاربة بين الشيعة والسنة مهمة الغرض منها أن في كل فكرة من الافكار تخرج نتوءات عرضية علينا أن نحاول الابتعاد عنها حتى لا ينشأ عنها التطرف، وهذا لا يتأتى الا من أننا يجب علينا أن نعي حدود المقاربة التي تخرج عن دائرة الالغاء والتهميش لأي طرف كان.
فتركيبتنا نحن كطائفة شيعية لا تسمح لنا بأن تكون الحوزة العلمية في يوم من الايام تابعة وخاضعة للسلطة لا دينيا ولا تنظيميا ولا حتى إقتصاديا، وهذا ما دعا الى أن تدفع حوزاتنا الثمن الكبير من قتل وتهجير للمراجع واتباع المراجع، ويبدو إن السبب من وراء ذلك هو حتى لا تتأثر الفتيا الدينية برأي الحاكم، ونحن أيضا لا نتحدد بتقليد المرجع الا أن يكون في منطقتنا نحن كطائفة شيعية منتشرة في العراق وايران وافغانستان وباكستان واوربا وافريقيا وكل دول العالم يأخذون التعليمات والاحكام من المراجع حسب تقليدهم في مناطق شتى من العالم، أما تركيبة الطائفة الدينية فالموضوع مختلف فتركيبة هذه الطائفة تنقسم الى السعودية بعدها مأوى أفئدة المسلمين ومصر المتمثل بالازهر الشريف وفي تونس سابقا متمثلة بمدرسة القيروان، الا أن التوجه نحو المدرستين الاوليتين في السعودية والازهر الشريف، ففي السعودية لدينا الان مشكلة وهي إن بعض المدارس السنية في مكة تحمل بين جنباتها حالة من التطرف الذي الان أحد إفرازاته (تنظيم القاعدة) المعروف، بينما في الازهر فالامر يكاد يكون مختلفا تماما عما موجود في المدرسة السنية الاولى لذلك كانت الجهود التي حملت منهج التقريب بين المذهبين قد أتت ثمارها في المحاولات التي حصلت في الخمسينيات من هذا القرن في التقريب بين المذاهب الاسلامية، وأخص بالذكر جهود كل من الشيخ محمد تقي، والشيخ محمد شلتوت، والسيد محمد تقي الحكيم عميد كلية أصول الدين مع علماء الازهر، والتي نعيش في ثمارها الان هي بفضل الاسلوب الذي إختاروه في الموازنة بين عملية التقريب فلا يوجد ولحد الان تشنج بين سنة الازهر وشيعة العراق إطلاقا خصوصاً مع تعزيز الوشائج الاجتماعية عن طريق التصاهر والتسامر والانتساب؛ فالقبائل الموجودة هي الاخرى متداخلة من الطرفين، والذي تصوره وسائل الاعلام الان من التقتيل والذبح ما هو الا فكر أراد أن يعمم مثل هذه الامور بين المسلمين حتى يأخذ العالم عنا هذه الفكرة المأساوية، وأكاد أعتقد إن مسألة التطرف التي بدت تظهر الان بقوة غير محصورة بالمسلمين أو اليهود أو المسيحيين هي قضية مرفوضة نهائياً وهي عارض دخل سرعان ما سينتهي، لذا نوجه الاخوة في الاديان الاخرى أن يقرأوا الصحيح على واقعه بعيدا عن التطرف الذي يعكس صورة سيئة عن الاسلام والمسلمين ليس بالعراق فقط بل في كل بلدان الشيعة والسنة بالعالم.