غالباً ما يتطرق النقاد بكثرة ولهفة الى نتاجات اولئك الشعراء الذين يجدون في كتاباتهم صدى لافكارهم ومشاعرهم , ونتاجات الشاعر الفرات لا تكون شاذه عن هذه القاعدة ومجموعة الاعمال المنشورة عنه بتزايد , وتشكل اعماله صدى حضاري وتأريخي تحديداً وطنه ومجموعات الشعرية التي صدرت عنه ليس بقليل,, وفي جميع دواوينه نلاحظ للشاعر محاولة في البحث عن شخصيته ومحاولة اخرى لتقديم موروثه الشعري ضمن عملية التطور الادبي في ضوء الغربة والتحولات الاجتماعية الكبيرة من خلال انطباع القراء اجيالاً عديدة .. اذ ان ليونيته الشعرية تطغي بصراعات حادة اضافةً الى ازدحامه بالشعرية المعاصرة , مكتنزة بالمحمولات الدلالية ذات مستويات مكثفة امتازت بالعمق وبصعوبة المأخذ احياناً .. ولأنه يكتب بوعي ومقصدية بعد تفكر وتأمل فهو ( شاعر النخبة ) والشعر النخبوي بحاجة الى ناقد مبدع رغم تعددية الآراء النقدية وتعدد النقاد حوله مثل عيسى حسن الياسري ولطفية الدليمي وعبد الستار ناصر وحاتم الصكَر , ودراسة نقدية لفاضل ثامر وغيرهم من الادباء الالمعيين فالشاعر الفرات قد خرق العادة الرمزية كأنه يكتب نافذاً من ظاهر النص الى باطنه وكل نص يبدو مهيمناً على ما يليه من نصوصه كعوالم متداخلة ينظر الى الاشياء بمراّته الداخلية وهي رؤيا خاصة و موقف ذاتي منفرد ولعل الوقوف على ماهية المنهج واستجلاء مفرداته كان بواسطة الوعي الباطن والتوظيف الرمزي الحالم الذي يحاول خلق جوهره بقوة كينونته وبقاء الذات التي تتعامد فيها كل هذه الاشياء محوراً لشعريته ،والهيكل العام الذي يكشف هويته الخاصة من خلال التفاعل والانفعال وتجلي اللامرئي في المرئي واللا محسوس بالمحسوس في رؤى متصارعة بين ذات خضعت لمؤثرات حادة تملؤه ب ( السدم ) والعزلة الروحية وتفوح منه معاناة الغربة والشوق لمهاوي سحيقة تتنفس في تأريخ ووطن يؤثر به ..في هذا الديوان الاخير للشاعر باسم فرات ..
حسب الشاعر الجهد الذي بذله في توظيف مفردات وأصوات تردد نشيد كربلاء. ولان جذور شعره تضرب عميقا بأرض الارض ...
اراد الشاعر أن يستطيل بأغصانه الى كل بلدان العالم تلك الارض الواسعة في الشرق والغرب والشمال والجنوب من عالمنا الكبير كأنه كان يدرس النقاط السوداء في حدقات عيون (المنفى) و يراقب ألمه بأشد النظرات مستفزا الاغتراب فيه .. فيتجول من جديد بأعماق ألمه ويرتطم باليقظة ..
مخترقا كل ما حوله وملقياً تحت ظلال النخيل ومياه الفرات وتراب كربلاء ..
امتاز اسلوب الشاعر برشاقته ووضوح معانيه وانسجام مضامينه الشعرية مع سياق الجمل النثرية في كل نص.. لكن غلب عليها لون اشبه بالوان الرسائل الادبية مع العناية بالصنعة .. ولقد استطاع ان يوجز التفاعل مع الذات الشاعرة والموضوع الذي ارتسم على وجه نصوصه وما يعانيه من شوق ودنف بينه وبين معشوقته كربلاء . فلقد بذل الشاعر باسم فرات جهدا بليغاً بكل ما يمتلكه من طاقة شعورية وقدرة تقنية في صياغة العبارة بإرساء .. في جزالة المفردة المتناغمة مع المفردة التعبيرية لوحداته النثرية مختزلاً المسافة عازفاً مع أوتار الحنين عن مكنون ذات متكونة من عدة نصوص لموضوع واحد.. وهو مدرك للذهول الذي يلاحظه القارئ من واقع وارف بالضنى للحبيبة .. مختبأً تحت ازآره رمزاً حضاري وتأريخي بأجواء الشاعر المتضنية الا وهي كربلاء ..
الشاعر باسم فرات ولاول مرة يجني ثماره الشعرية في ديوانه الاخير ( اشهق بأسلافي وأبتسم ) مختلفاً عما سبق من ابداعة كأنه يرسم للقارئ رؤية نثرية عبارة عن ثورة يبحث فيها عن ضالته في ثوب الحبيبة الرفل .. وفي سديم الاغتراب مستسقي المعنى من تأريخ وطنه الام ومكابدات روحه العاشقة على مدى سنوات الترحال والالغاء , ولم يكف بل ظل يصرخ بوجع عراقي مرير .
وكان يقضم حفنات الجمر مفردات ,, في زمنه الثلج وتتضاءل فصوص الملح كأن الورقة التي بين يديه طبق مائل جالساُ تحت مظلة الضباب .. ويحيط بجمجمته الصغيرة كفناً من خيوط الشمس ويكاد يفرط في العشق فتتفجر ألغام غربته .. و يتثائب ويتشنج في محتوى نصوصه وهو يوجه للغربة طعنات فهي التي غمدت في كبده سيفاً يتكلم في عز القحط باللغة العربية لهذا كان يهوي كالمطر الساخن على نخيل العراق وهو يفتح مأساته ب ( أشهق بأسلافي وأتنفس) فيبكي ضاحكاً متأثراً بطفولته التي يعود اليها في أغلب نصوصه . وكما يقول نيتشه ( في داخل كل انسان حقيقي طفل يرغب في اللعب ) .
والشاعر باسم فرات كان يرمي اقنعته دون ان يشعر بذلك وكان يصف نفسه كالطفل الذي لا جيوب بثوبه يراقب طائرته الورقيه وكان يطلق بالونات الاماني الا ان الواقع الغريب كان يثقبها فينتشر هوائها الساخن بوجهه ,, واحياناً يتصور أنه يمسك ريشة وعلى خاصرته اللوحة ليرسم ضالته (أنثى) فكان هذا الوصف الرمزي هو الشرارة التي استنزفت عبراته وشغفه اللهوف للقاء..
ولاحظتُ في نصوص (اشهق باسلافي وابتسم ) رؤيا خاصة وموقف ذاتي منفرد ينظر الى الاشياء بمراّة داخلية على الرغم من ان النصوص تعالج موضوعاً حسياً هو الاساس يعيش في غربة الروح ويأكل من لحمه ويشرب من دمه والشاعر لاحول له ولا قوةغير الصراخ تحت الامواج يحاور تأريخه بين حين وحين فهناك متضمن في شعره وهو تكرار اللاشعوري ضمن سياق يبلغ حد المأساة فالشاعر يكثف الحالة النفسية في وحداته حتى تصبح اللفظة المكررة معادلة للحدث بكامله وهناك متضمن اّخر في نصوصه النثرية هي المقارنة والمفارقة المتناقضة نوع من ( اللبس) لمباغتة القارئ وتحفيزه ، .. بحيث بعد التفحص تبدو سليمة ومنطقية تمنح القارئ حساً بأكتشاف علاقة خفيه في النص , وكان ناجحاً متلبس السطحية بالمعنى بين مفرداته متكلماً برمز ظاهري ففي نص (انبهار) نلاحظ كيف أنه يصف أنبهار الماّذن بظل مدينة كربلاء وهي تصرخ بذكر الله منبهرة بها , والملاحظ ان النص المهيمن على نصوصه هو نص ( الاسم الاعظم ) فالشاعر يصف مدينتة التي احتوت احلامه وطفولته واّهاته كأنها مزار على جبل مقدس تحيط به الملائكه والببغاوات وأسراب الطيور رابطاً الطبيعة الجميلة التي يراها في ترحاله فيتبؤء بمحراب مقدس يتأمل ضالته ( كربلاء ) ..
وعندما قال ( في أول حروفك أسم الله الاعظم وفي الاوسط سر النبوة وفي الاخير برهان الامامة ) ونفى الشاعر ان هناك كرامة للانبياء الا اذا نطقوا به . فلعظم القداسة وأعتزازه بمدينته التي ضمت جراح الانبياء وجراح ال البيت (عليهم السلام ) يقول الشاعر ( لا كرامة لنبي الا لو نطق بأسمك / ولا شهادة الا في عناقك / ولا عصمة لامام الا بالتمسح بأثوابك ) ..
لله درك ايها الشاعر الفرات على تلك المشاعر التي تحملها لموطنك الجريح كربلاء , وتلك الجياشة النازفه بحيث انك نفيت كل شئ وشذبته دونها ودون بركاتها فهي برهان الامامة كما ذكرت ...!!
فلقد اخترت التقنية المناسبة لدخول في الديوان عندما قلت ( انتي سفينة النجاة / وبأنوثتتك تحرسين ايامي ) . فالشاعر هنا استعان بالرمزية الشعرية وكانت ذات اطلالة سيمائيه مكتنزه فلقد شبه الشاعر اغلى وأثمن واهم شئ في الوجود الا وهي الانثى بكل محتواها وحاجة الانسان لها.. كرمزاً ابتكرهُ لابداعية النصوص , واللافت للانتباه أن الشاعر كان واضحاً بمخاطبته هادراً بعواطفه الغزيرة والهدر صفة الكثرة مفرطاً بها تحديداً في ( نص أتشبث بك حلماً ) فهو يصف طيفها انه الشيب الذي يطوق مفرقهُ بأساه , وانه يؤكد بنفس الوقت في نص ( محاولة يائسة ) بلا مبالاتها وصمتها ,, وكان يعني بذلك ان الصمت والا مبالاة هي الغربة . فالمدينة التي يمجدها الشاعر كرمز تاريخي ثابت وهو من يسعى اليها ليمجدها فهنا نحذر القارئ انه لا ينظر الى الرمزية التي يقصدها الشاعر وانه (مخفق الى حد الاسراف بالعواطف والتذلل ) وان الانثى ليست رمز , فأن من غير الممكن ان الشاعر باسم فرات يسئ الى تأريخه ويسعى الى تمزيق فضيلتة وفضيلة الشعر بأنه يشهق بهذا العشق الصارخ ويصف أمرأة بأنها تفوق المقدسات وتعلو على التأريخ مقابل صمت ولا مبالاة وهجر وخذلان وانها تعبث به معترفاً بهذا في نصوصه حد التمرغ في الوحل .
وقد يكون اساء ايضاً الى الدين وعمد على تشضي وخرق. عندما قال ( انها الدر والذهب المشتهى وباقي النساء كلهم ترابُ ) الشاعر هنا كان يدرك الى ان هذا الشطر يخص أمام المتقين علي بن ابي طالب عليه السلام فلا اعتقد ان مجرد الايهام بأن افكار بعض القراء ينزاح الى تغيير الرمز أهو فعلاً كان يجول في خيالات الشاعر باسم فرات ؟ وكيف وقد ولد في كربلاء وترعرع غلى انفاس امه التي تفوطت بحب علي وفاطمة عليهم السلام .. هذا من جهه ومن جهه اخرى أن الشعراء اغلبهم كان شهيرا ومخضرماً بسبب عشق أمراة مثل قيس وليلى وجميل بثينة وبن زيدون , وتمجد التأريخ بأعمالهم لكن كان مقابل لذلك العشق عشقاً يقابله مكملاً للصراع الذي كان يشعر به الشاعر ومحفزاً لاندفاعه العميق كثف بنصوصه العاطفه و كان يعلن انهما (نقيضان) وانها لم تبالي به ، فلو كان متجليا بهذا الايهام فعلاً , , فأنه لم يكن ممرغا لكبريائه فقط بل أساء لكينونته وقيمة ذاته فهو الشاعر الذي طالما كتبنا عن شعره كان جديرا بأ ستنزاف الأ فئدة ، ما أردنا قوله هونفي هذا الاحساس الخطير وأن قيمة الشعر والشاعر محفوظة ولازالت بخير ,, فالشاعر باسم فرات دمج الصفة التضادية للمفارقة الشعرية اذ أنه باغت القارئ عندما كان يغني للخيبة وهو يتوجع باحضان الغربة ,,فقد عمل على دمج الصورة المجازية بالمعنى المضاد أو المباغتة ولم يتغير موقف الشاعر بتغيير جو النص وان تضاربت الأيحاءت ’’ والشاعر حدد مغزى النصوص محددا الاجواء لموضوع واحداً برمته وهو كربلاء .. وهذه الثورة من الانفعالات والتناقضات بين الشاعر والحبيبة أنها تقوم شعريته تحليلاً , رغم عدم اختلاف بنىّ القصائد وتركيبها العضوي من اطلالتها السيمائية الى البنية الحركية ثم البنية الدموية ثم البنية السكونية وهي ( الزفير ) الذي يطلقه الشاعر وهو سديح على شواطئ الغربة , لقد استطاع الشاعر باسم فرات ان يسبر اعماق الوجود في كربلاء ويمسك به وهو متوارياً خلف اشرعة ترفد اسفاره لذا يبدو شعره نتاج استقرائي يتخطى التجريد الدلالي باحثاً عن وجود مدينته كربلاء في ساحات بعيدة تلعب بها الريح قابعة بالغياب ..