...
أوووه... أنه قد هرم مثلي تماما... بعدما كان يينع بالحياة. كنت أحلم أن أراه صفا يعلم أبناءَنا أبجدية الحياة. منذ دخلته أحمل معي هزهزة المهد، وترنيمة أمي. وحملت معي كل أزقة المخيم وباب الطاق. أزقة ضيقة تتسع في دواخلي لتصير شوارع من أمل وحياة. ووجه أول معلم درّسني: (دار.. داران.. دور) أتذكره الآن انه أستاذ مرزا.. كنتُ لا افهم كيف يتبخر ماء الأنهار.. يصعد إلى فوق يلتقي البخار بطبقات باردة ثم ينزل مطرا.. مطرا.. يغسل وجه الأرض مطر.. مطر.. وهكذا كبرتُ لأعانق وجه أحبتي تحت المطر. كبرتُ وإذا بعريف يقضم العمر ليعلمني كيف أضع الفرضة على الشعيرة، وانظر بروحي تحت أسفل الساعة ستة.. ألا لعنة الله على الساعة ستة وما أسفلها. يقول أستاذ مرزا: إن البذرة لا تكبر بالمطر وحده بل هي بحاجة إلى ارض كي تنمو والى شمس والى هواء.. الأحلام لا تموت إذ كنا جمهرة نريد أن نعبر الفجر لا ادري أين هم الآن ؟ حين فتحنا خارطة الوطن أمامنا.. أحدنا اختار الشمال والآخر اختار الجنوب وصديقي كاظم عبد الله آه كاظم عبد الله هرب من نهر جاسم، ذهب ليسأل شرطي الأمن.. قل لي يا أخ بلا زحمة أي الجهات برأيك أكثر أمنا للهروب.. وأنا لم اهرب إلا لعينيها لأن لا مأوى لي سوى كربلاء.. أحبها إلى الحد الذي يجعلني أعيش جحيم السجن بلذة أهل النعيم.. هناك أشياء عزيزة جدا في الحياة لدرجة إنها تستحق التضحية بكل شيء حتى بالحياة نفسها. نحن لم نقتل ولم نسرق ولم نهتك عرض احد.. ولم نخن وطنا، والقضية وما فيها انهم يرون في أعيننا ما لا يملكون.. في زمن كنت لا تقدر أن تهمس في أذن أخيك.. إذ كان للحيطان آذان كان لجدران السجون قلوب ساعة الجراح كنا نرى دموعها تسيل.. بنا أصبحت تلك السجون جوامع قلوبنا مآذنها..
كم سلما هو الفارق بين ملك يمنح جزيرة تكلف الدولة طنا من الذهب لبناء مرصد فلكي قبل خمسة قرون وبين حاكم لا يجيد إلا بناء السجون...؟! فإذا مات سجين كنا ننظر إلى تلك النوارس العالية هناك فوق فنرى نورسا يرتقي الفضاء.. صهيل جراح تنادم الصمت.. منذ نعومة الحرف الأول وقد تنبأ الكثيرون لي قتلة بكر لم تلد بعد.. رأس يطاف عبرة للناس ويمنح حامله جائزة وعرس رأيت نداوة الشهادة على جسد أخ.. أوصيك.. أوصيك يا أخي.. فمثلك لا يباع ومثلك لا يخاف.. ومثلك لا يعطي يد الذلة لأحد لذلك صرت لا أسمح لأحد أن يقايضني الصحو.. يبدو إن المخاضات عسيرة في زمن الموت، وإلا هل يعقل أن اسلم اليد لمن أحذر الأقربين منه.. الذئاب لا تحتاج إلى عذر كي تلتهم فريستها، هي قبائل مكر صفوها بأيد مرتجفة والتواريخ شهود.
( الوجه الثاني )
أي سماء انظر إليها، وهذا الحاجز (السقف) صار (عصّابة) عين وقلب ؟ فأنى لي النظر فوقه، لأبحث عن هلال في كبد سماء لا أراها؟ فلذلك صرت لا انظر إلى فوق أبدا... تتعثر نظراتي عند باب سجن حقود... هل عيبٌ أن أخاف؟ وأنا الذي نشأت في حضن عائلة، تخاف عليّ من النسمات... وأين ما أذهب آخذ معي صوت أمي: ماما انتبه لنفسك... إياك أن تتشاجر... امشي بعين مفتوحة... إياك أن تقول... إياك أن.. إياك.. إياك.. حتى صرت أخشى كل شيء.. لا أصدقاء لدي.. لا احد يعرفني سوى باسم أبي.. من هذا..
أوه أنه ابن عزيز العطار.. فالكل يناديني ابن عزيز، لا احد يعرف إن عندي أسم وهو هيثم.. اطلع من سوق النجارين لأدلف سوق النجارين.. احدث نفسي لأضحك.. ذات يوم مات جارنا، حملنا تابوته إلى المغتسل، ومن ثم إلى المقبرة.. وإذا به يعطس ليصحو ويرفع التابوت هكذا فجأة.. تساقط جميع المشيعين من العربة.. إلا أنا.. لأني كنت ميتا لحظتها تقول أمي:ـ إن ملك الموت قد توهم! كيف يتوهم ملك الموت؟ لا أدري.. أحدث نفسي لأضحك.. كانت لدينا ساعة يطلع منها بلبل يغرد عند كل رأس ساعة.. ذات يوم سمعتُ البلبل ينهق مثل الحمار.. هل فعلا ينهق البلبل أحيانا؟ سألني احدهم لِمَ أنت سجين؟
فقلت له: لِمَ أنت سجان؟ فركلني.. ما إن أغمض عيني حتى أراهم يقفون على رأسي (طاخ ما طاخ) مشكلة انهم صاروا يتعقبون الناس، حتى في مناماتهم.. ولذلك قررت أن أقضي العمر هنا صاحيا دون نوم.. أريد أن أتحدث عن أشياء أخرى جميلة عن الطبيخ، مثلا عن المرأة والأطفال والبيت.. ذات مرة وهم يقودوني إلى التحقيق، مررنا بقاعة كبيرة في طابق علوي. وفي لحظة من لحظات الانتظار، نظرت إلى نافذة قريبة، فرأيت رجلا وامرأة يسيران سوية.. فسألت نفسي حينها وأنا ابكي.. هل ستتزوج يوما مثل الناس، ويصير عندك امرأة وأطفال وبيت؟ أم ستذهب إلى ربك هكذا أعزب؟ أنا احلم.. احلم أن اجلس على السفرة مع أهلي... سنموت من الجوع، ما نأكله من ضرب واهانات، أضعاف ما نأكله من طعام، أي واقع نعيشه أو نتحدث عنه بشفافية وتفهم وثقافة؟ إن منظر المرأة وهي تبكي، يرق له القلب والعاطفة والحنان، لكن أي واقع كافر.. هذا الذي نسمع فيه إلا بكاء الرجال و(آخ ما آخ...؟) المعروف حين يموت شخص ما ينادي المنادي: (أخواني المؤمنين، انقلوا أقدامكم إلى مغتسل المخيم، لتشييع جثمان المرحوم المغفور له) وهنا من يموت لا ندري أين يدفنوه.. يقولون: إن هناك مقابر خاصة.. أحواض تيزاب مثلا.. ثرامات لحم.. ثلاجات المستشفيات.. ليزجونا مع جثث (اقرب حادث مروري).. و.. و.. مثل هذه الأمور.. ويقولون إن السجين في الخارج، عنده سرير خاص، وغرفة مؤثثة، فيها ثلاجة وتلفزيون ومكتبة وتليفون، ويعطونه سكائر، وتغذية درجة أولى، وراتب سجين... راتب سجين يعني هناك عندهم وظيفة كبيرة اسمها سجين، تعادل عندنا درجة سفير فما فوق، ونحن لا نعرف في أي فصل من فصول السنة نعيش..
أتحدث وأنا ادري إن الكلام لا يمنحني حريتي.. دائما احمل لأمي حكمة.. تقول: إن الإنسان الذي لا يحمل ضميرا يؤنبه عند ظلم الآخرين، فلا خير فيه، والشرطي يضربني كأنه يقتص مني دم أبيه.. دون أن يوجعه ضميره أو يؤنبه..
يضرب.. يضرب.. ولا يدعني إلا بعد إن افتعل السقوط!! المشكلة أنهم يرون في كل وليد جنازة، ونحن نرى في كل جنازة وليدا... هذا القول لأمي.. ومن له أم مثلها لا يخاف. أنا أخاف على من معي، أكثر مما أخاف على نفسي، رغم إن شراسة هؤلاء الوحوش تخيف الجبال.. لكني مهضوما أسأل لماذا نهان؟ نضرب؟ نداس بسنابك خيل هوجاء؟
رفضتُ أكثر من فرصة للسفر... لأن أمي ترى إن الأرض أينما رحلتُ هي ضيقة بلا وطن.. لم اقل لأحد عن سر مجيئي أبدا.. لكن هذا الصفاء يلهب الحماسة والصدق والشجاعة.. كان أبي الحاج عزيز العطار رحمه الله، رجل مروءة، وشهامة ودين.
رأيناه يوما والحزن يأكله.. أبي لم يشأ أن يخبرنا بما يعاني أو بما يريد.. لم نسمع منه سوى همسات وعيد محكم النبرات، مثل (الصباح رباح).. (بسيطة).. سأريهم من الحاج عزيز العطار.. أبي يحتفي وحده بالقرار.. نادمت أمي الصمت دون أن تبوح بشيء.. يا ولدي إن صدور الرجال صناديق مقفلة، هي خزين ألم وهم.. وانطلق الوجد رايات.. سمعنا الصبح من يقول: إن شيخ الجامع قد شاخ، فاعتزل البيت دون صلاة.. يا سبحان الله رجل بين ليلة وضحاها يشيخ..
شظايا وعيد أقفلت أبواب الله.. وأبي يلملم بقايا الصوت مئذنة.. الله اكبر.. وهب الناس صفوفا خلف النداء.. وهناك من كان يتربص السجدة، فيطبر هامة الدعاء.. رفعوا أبي راية من رايات السنا..
تقول أمي: أبوك يحتاج إلى ارض بحجم قلبه، ولذلك رحل شهيدا.. أش.. لا تبكوه.. لا تنصبوا له مأتماً لا.. لا.. وحسنا فعلوا كما تقول أمي: شاء الله أن يرحل أبوك، كما الشهداء بصمت.. هندمتني بعد ذلك أمي، لأسعى خادما لفيض كل دعاء.. سيدي أنا أريد أن أكمل مشوار أبي، واخدم هذا المجد عنوان وفاء، فأنا ابن هذا الدم الذي سال زهوةً على عتبات مسجد من مساجد الله.. أنا.. أنا.. أنا.. لا.. قاطعني الشيخ الجليل: عد إلى أمك يا ولدي، فلم يزل الجرح ندياً على قلبها المفجوع بالحسرات..
قلتُ: سيدي هي التي هندمتني إليك.. أمي.. أمي التي تخاف عليّ من النسمة والأرض، هي ذي تجندني زاد فداء.. وإذا بلحظة من لحظات المخاض.. لا ادري كيف تحول الفتى المدلل الخائف إلى رجل مقدام يرفض المهانة، وهو يرى شيخ الجامع نائما، قرب خطوته، ملطخا بالدماء.. ارتعدت فرائصي حينها غضبا، فأرديت الضابط قتيلا... وإذا بأمي تطلق خلفي زغرودة فرح ودمع وداع.. واجتمعت عليّ أكوام الدمى الحجرية من كل صوب.. هذا يضرب وذاك يرفس، وذاك يعض كما الكلب يعض... وها أنا ارتحل من سجن إلى سجن... لأكتشف معنى الإنسان.. فتعلمت أن على السجين آن يخاف... لابد له من الخوف كي يسلم ويعيش.. ورغم هذا الألم، هناك شيء ما يشدني إلى الفرح الجميع هنا يناديني.. هيثم..
نعم أنا هيثم أنا هيثم عزيز العطار...
(الوجه الثالث )
لا أدري لماذا يجعلنا السجن شعراء؟ نغزل من هذا الوجع أحلامنا وأمالنا وآلامنا... نحلم بنعيم البهجة، ونحن نعلم قبل سوانا حجم الكارثة التي نحياها. شذاذ بشر يقودون لنا العتمة قسرا، ليصير هذا النهار الذي خلقه الله جميلا، محض عتمة وعذاب... الناس في كل مكان يقلقون من المرض، ويخافون الموت. ونحن لا نخشى سوى قرقعة أقدام الحرس، وشعارنا كان (الموت ولا شرطي). وهذا المسمع وحده كفيلا بأن يبعث الجبن والخور داخل أي كائن بشري.
لا أننا ورغم كل هذا الألم، كنا لا نضعف أمامهم. ولذلك اعتقد إن الله يحب السجناء المظلومين، فهو دائما يمدهم بالعزم والعناد.. لا وقت لدينا للراحة، نادمنا التعب قبل أن نولد، عطش نحمله منذ قرون.. شهقة هي كل ما أملك من شجن، فلهذا كان الصمت اقرب إليّ من نفسي، رغم انه لا يقي أحدا من شر.
وأجدى هنا من الكلام.. وجع يستصرخ السوط يضرب, وأنا أصرخ آخ.. آخ.. يضرب.. آخ.. أقع أرضا لأنهض للسوط ثانية.. كل منا يعيش واقعه، السجين له واقعه الخاص، وكذلك السجان، كلانا حقيقة.
أفكر أحيانا في أشياء دقيقة المعنى، فأنا متأكد أنهم ليسوا بحاجة إلى سجني أو سجن سواي، لكنهم بحاجة إلى سجن الأمل الذي يحتوينا، علينا أن لا نفقد فطرتنا، لابد أن نتسلح بهذا الوعي، حينها فعلا، يعتبر الصمت ابلغ كلام في زمن الخرس.. يسألني السجناء أحيانا لِمَ سُجنت؟ وكأن السجن يحتاج إلى ذنب في العراق، ولكن الوهم يعلو أحيانا، فلا يقدر أن يلوي أعنة غرور الإنسان، عقل أو ضمير، فينشأ أبناء الوهم الأغبر، وهم يرون الليل فجرا ويكبرون عميانا..
نشأتُ ولم أكن اعلم أني ابن نعيم زائف، وخبز حرام مديوف بدم الفقراء.. لستُ عقوقا كي ارجم أبي بالشبهات.. دم.. دم.. دم.. دمُ من هذا يا أبي؟ يجيبني: زهو حضارات عمرتها الفرسان يا بني!! يا أبي يا أبي هل بعتم التواريخ أيضا؟ وهكذا شمخ الصمتُ عنيدا داخل ذات هدمتها أسوارها.. استجدي الرحمة من الناس.. من يهب عيني غفوة حلال، ارحموني يرحمكم الله.. فيجيبني صدى صوت من داخل روحي.. ابشر بالفوز القريب..
أسأل نفسي كيف، وأنا ابن السهم الذي يحز وريد الرضع باليتم؟
كيف وأنا ابن من يوزع الثكل بين الأمهات، ويرمل الزوجات قربة لوجه كرسي اعور.. خذ تقريرين أو ثلاثة لتبني دار سعدك يا بني
هذا رأس يتيم بلا أب... وهذا رأس غريب لا نعرف له ناسا... وهذا رأس وحيد ليس له أهل.. وذاك رأس عليل دون سيفك سيموت.. وذاك.. وذاك.. وذاك.. وريقاتك أبي تتدلى بحبال المشانق، وعلى أطرافها تقبع السجون.. ارفع يد الدعاء يا رب ارحمني.. واجلس أمام هيبة الجلال.. ألا مجال للتوبة يا شعب؟ فأنا بالله وبك استغيث..
أنا الذي أكلت أكباد أبنائك دون أن ادري.. وضحكت على نحيب الناس، وربما ضحكتُ بدمعة يتيم دون أن ادري، وبعد هذا التفت وريقة من وريقات أبي، حول رقبة ولد لم يطاوع أباه على الذل..
هنا أهلي وإخوتي وناسي.. وهذا الصمت الذي استفز السؤال، كاد أن يفجّرني، فأنا اليوم سعيد، لأني أخ... كل أفق ينتظر المطر.. فمن يريد أن يعرف حجمنا الطبيعي، فلينظر لعين السجان.؟!
ثمة مطر اسود، يعجن من هذا الدم خبز زاده الذليل.. هو منظر ألفناه، وما زال يرعبنا هذا النشيج، منذ أن قتل قابيل هابيل... يستشري القتل من اجل ذات واهمة، وبضع طريق في صحراء، تتيه فيها الخطوات.
أنا ما زلت أعجب، كلما أرى مثقفا ما زال يعيش، كيف لم يقتل لحد الآن ؟
اللهم إنا لا نملك سوى يدك، يد نلوذ بها إليك
أوووه... أنه قد هرم مثلي تماما... بعدما كان يينع بالحياة. كنت أحلم أن أراه صفا يعلم أبناءَنا أبجدية الحياة. منذ دخلته أحمل معي هزهزة المهد، وترنيمة أمي. وحملت معي كل أزقة المخيم وباب الطاق. أزقة ضيقة تتسع في دواخلي لتصير شوارع من أمل وحياة. ووجه أول معلم درّسني: (دار.. داران.. دور) أتذكره الآن انه أستاذ مرزا.. كنتُ لا افهم كيف يتبخر ماء الأنهار.. يصعد إلى فوق يلتقي البخار بطبقات باردة ثم ينزل مطرا.. مطرا.. يغسل وجه الأرض مطر.. مطر.. وهكذا كبرتُ لأعانق وجه أحبتي تحت المطر. كبرتُ وإذا بعريف يقضم العمر ليعلمني كيف أضع الفرضة على الشعيرة، وانظر بروحي تحت أسفل الساعة ستة.. ألا لعنة الله على الساعة ستة وما أسفلها. يقول أستاذ مرزا: إن البذرة لا تكبر بالمطر وحده بل هي بحاجة إلى ارض كي تنمو والى شمس والى هواء.. الأحلام لا تموت إذ كنا جمهرة نريد أن نعبر الفجر لا ادري أين هم الآن ؟ حين فتحنا خارطة الوطن أمامنا.. أحدنا اختار الشمال والآخر اختار الجنوب وصديقي كاظم عبد الله آه كاظم عبد الله هرب من نهر جاسم، ذهب ليسأل شرطي الأمن.. قل لي يا أخ بلا زحمة أي الجهات برأيك أكثر أمنا للهروب.. وأنا لم اهرب إلا لعينيها لأن لا مأوى لي سوى كربلاء.. أحبها إلى الحد الذي يجعلني أعيش جحيم السجن بلذة أهل النعيم.. هناك أشياء عزيزة جدا في الحياة لدرجة إنها تستحق التضحية بكل شيء حتى بالحياة نفسها. نحن لم نقتل ولم نسرق ولم نهتك عرض احد.. ولم نخن وطنا، والقضية وما فيها انهم يرون في أعيننا ما لا يملكون.. في زمن كنت لا تقدر أن تهمس في أذن أخيك.. إذ كان للحيطان آذان كان لجدران السجون قلوب ساعة الجراح كنا نرى دموعها تسيل.. بنا أصبحت تلك السجون جوامع قلوبنا مآذنها..
كم سلما هو الفارق بين ملك يمنح جزيرة تكلف الدولة طنا من الذهب لبناء مرصد فلكي قبل خمسة قرون وبين حاكم لا يجيد إلا بناء السجون...؟! فإذا مات سجين كنا ننظر إلى تلك النوارس العالية هناك فوق فنرى نورسا يرتقي الفضاء.. صهيل جراح تنادم الصمت.. منذ نعومة الحرف الأول وقد تنبأ الكثيرون لي قتلة بكر لم تلد بعد.. رأس يطاف عبرة للناس ويمنح حامله جائزة وعرس رأيت نداوة الشهادة على جسد أخ.. أوصيك.. أوصيك يا أخي.. فمثلك لا يباع ومثلك لا يخاف.. ومثلك لا يعطي يد الذلة لأحد لذلك صرت لا أسمح لأحد أن يقايضني الصحو.. يبدو إن المخاضات عسيرة في زمن الموت، وإلا هل يعقل أن اسلم اليد لمن أحذر الأقربين منه.. الذئاب لا تحتاج إلى عذر كي تلتهم فريستها، هي قبائل مكر صفوها بأيد مرتجفة والتواريخ شهود.
( الوجه الثاني )
أي سماء انظر إليها، وهذا الحاجز (السقف) صار (عصّابة) عين وقلب ؟ فأنى لي النظر فوقه، لأبحث عن هلال في كبد سماء لا أراها؟ فلذلك صرت لا انظر إلى فوق أبدا... تتعثر نظراتي عند باب سجن حقود... هل عيبٌ أن أخاف؟ وأنا الذي نشأت في حضن عائلة، تخاف عليّ من النسمات... وأين ما أذهب آخذ معي صوت أمي: ماما انتبه لنفسك... إياك أن تتشاجر... امشي بعين مفتوحة... إياك أن تقول... إياك أن.. إياك.. إياك.. حتى صرت أخشى كل شيء.. لا أصدقاء لدي.. لا احد يعرفني سوى باسم أبي.. من هذا..
أوه أنه ابن عزيز العطار.. فالكل يناديني ابن عزيز، لا احد يعرف إن عندي أسم وهو هيثم.. اطلع من سوق النجارين لأدلف سوق النجارين.. احدث نفسي لأضحك.. ذات يوم مات جارنا، حملنا تابوته إلى المغتسل، ومن ثم إلى المقبرة.. وإذا به يعطس ليصحو ويرفع التابوت هكذا فجأة.. تساقط جميع المشيعين من العربة.. إلا أنا.. لأني كنت ميتا لحظتها تقول أمي:ـ إن ملك الموت قد توهم! كيف يتوهم ملك الموت؟ لا أدري.. أحدث نفسي لأضحك.. كانت لدينا ساعة يطلع منها بلبل يغرد عند كل رأس ساعة.. ذات يوم سمعتُ البلبل ينهق مثل الحمار.. هل فعلا ينهق البلبل أحيانا؟ سألني احدهم لِمَ أنت سجين؟
فقلت له: لِمَ أنت سجان؟ فركلني.. ما إن أغمض عيني حتى أراهم يقفون على رأسي (طاخ ما طاخ) مشكلة انهم صاروا يتعقبون الناس، حتى في مناماتهم.. ولذلك قررت أن أقضي العمر هنا صاحيا دون نوم.. أريد أن أتحدث عن أشياء أخرى جميلة عن الطبيخ، مثلا عن المرأة والأطفال والبيت.. ذات مرة وهم يقودوني إلى التحقيق، مررنا بقاعة كبيرة في طابق علوي. وفي لحظة من لحظات الانتظار، نظرت إلى نافذة قريبة، فرأيت رجلا وامرأة يسيران سوية.. فسألت نفسي حينها وأنا ابكي.. هل ستتزوج يوما مثل الناس، ويصير عندك امرأة وأطفال وبيت؟ أم ستذهب إلى ربك هكذا أعزب؟ أنا احلم.. احلم أن اجلس على السفرة مع أهلي... سنموت من الجوع، ما نأكله من ضرب واهانات، أضعاف ما نأكله من طعام، أي واقع نعيشه أو نتحدث عنه بشفافية وتفهم وثقافة؟ إن منظر المرأة وهي تبكي، يرق له القلب والعاطفة والحنان، لكن أي واقع كافر.. هذا الذي نسمع فيه إلا بكاء الرجال و(آخ ما آخ...؟) المعروف حين يموت شخص ما ينادي المنادي: (أخواني المؤمنين، انقلوا أقدامكم إلى مغتسل المخيم، لتشييع جثمان المرحوم المغفور له) وهنا من يموت لا ندري أين يدفنوه.. يقولون: إن هناك مقابر خاصة.. أحواض تيزاب مثلا.. ثرامات لحم.. ثلاجات المستشفيات.. ليزجونا مع جثث (اقرب حادث مروري).. و.. و.. مثل هذه الأمور.. ويقولون إن السجين في الخارج، عنده سرير خاص، وغرفة مؤثثة، فيها ثلاجة وتلفزيون ومكتبة وتليفون، ويعطونه سكائر، وتغذية درجة أولى، وراتب سجين... راتب سجين يعني هناك عندهم وظيفة كبيرة اسمها سجين، تعادل عندنا درجة سفير فما فوق، ونحن لا نعرف في أي فصل من فصول السنة نعيش..
أتحدث وأنا ادري إن الكلام لا يمنحني حريتي.. دائما احمل لأمي حكمة.. تقول: إن الإنسان الذي لا يحمل ضميرا يؤنبه عند ظلم الآخرين، فلا خير فيه، والشرطي يضربني كأنه يقتص مني دم أبيه.. دون أن يوجعه ضميره أو يؤنبه..
يضرب.. يضرب.. ولا يدعني إلا بعد إن افتعل السقوط!! المشكلة أنهم يرون في كل وليد جنازة، ونحن نرى في كل جنازة وليدا... هذا القول لأمي.. ومن له أم مثلها لا يخاف. أنا أخاف على من معي، أكثر مما أخاف على نفسي، رغم إن شراسة هؤلاء الوحوش تخيف الجبال.. لكني مهضوما أسأل لماذا نهان؟ نضرب؟ نداس بسنابك خيل هوجاء؟
رفضتُ أكثر من فرصة للسفر... لأن أمي ترى إن الأرض أينما رحلتُ هي ضيقة بلا وطن.. لم اقل لأحد عن سر مجيئي أبدا.. لكن هذا الصفاء يلهب الحماسة والصدق والشجاعة.. كان أبي الحاج عزيز العطار رحمه الله، رجل مروءة، وشهامة ودين.
رأيناه يوما والحزن يأكله.. أبي لم يشأ أن يخبرنا بما يعاني أو بما يريد.. لم نسمع منه سوى همسات وعيد محكم النبرات، مثل (الصباح رباح).. (بسيطة).. سأريهم من الحاج عزيز العطار.. أبي يحتفي وحده بالقرار.. نادمت أمي الصمت دون أن تبوح بشيء.. يا ولدي إن صدور الرجال صناديق مقفلة، هي خزين ألم وهم.. وانطلق الوجد رايات.. سمعنا الصبح من يقول: إن شيخ الجامع قد شاخ، فاعتزل البيت دون صلاة.. يا سبحان الله رجل بين ليلة وضحاها يشيخ..
شظايا وعيد أقفلت أبواب الله.. وأبي يلملم بقايا الصوت مئذنة.. الله اكبر.. وهب الناس صفوفا خلف النداء.. وهناك من كان يتربص السجدة، فيطبر هامة الدعاء.. رفعوا أبي راية من رايات السنا..
تقول أمي: أبوك يحتاج إلى ارض بحجم قلبه، ولذلك رحل شهيدا.. أش.. لا تبكوه.. لا تنصبوا له مأتماً لا.. لا.. وحسنا فعلوا كما تقول أمي: شاء الله أن يرحل أبوك، كما الشهداء بصمت.. هندمتني بعد ذلك أمي، لأسعى خادما لفيض كل دعاء.. سيدي أنا أريد أن أكمل مشوار أبي، واخدم هذا المجد عنوان وفاء، فأنا ابن هذا الدم الذي سال زهوةً على عتبات مسجد من مساجد الله.. أنا.. أنا.. أنا.. لا.. قاطعني الشيخ الجليل: عد إلى أمك يا ولدي، فلم يزل الجرح ندياً على قلبها المفجوع بالحسرات..
قلتُ: سيدي هي التي هندمتني إليك.. أمي.. أمي التي تخاف عليّ من النسمة والأرض، هي ذي تجندني زاد فداء.. وإذا بلحظة من لحظات المخاض.. لا ادري كيف تحول الفتى المدلل الخائف إلى رجل مقدام يرفض المهانة، وهو يرى شيخ الجامع نائما، قرب خطوته، ملطخا بالدماء.. ارتعدت فرائصي حينها غضبا، فأرديت الضابط قتيلا... وإذا بأمي تطلق خلفي زغرودة فرح ودمع وداع.. واجتمعت عليّ أكوام الدمى الحجرية من كل صوب.. هذا يضرب وذاك يرفس، وذاك يعض كما الكلب يعض... وها أنا ارتحل من سجن إلى سجن... لأكتشف معنى الإنسان.. فتعلمت أن على السجين آن يخاف... لابد له من الخوف كي يسلم ويعيش.. ورغم هذا الألم، هناك شيء ما يشدني إلى الفرح الجميع هنا يناديني.. هيثم..
نعم أنا هيثم أنا هيثم عزيز العطار...
(الوجه الثالث )
لا أدري لماذا يجعلنا السجن شعراء؟ نغزل من هذا الوجع أحلامنا وأمالنا وآلامنا... نحلم بنعيم البهجة، ونحن نعلم قبل سوانا حجم الكارثة التي نحياها. شذاذ بشر يقودون لنا العتمة قسرا، ليصير هذا النهار الذي خلقه الله جميلا، محض عتمة وعذاب... الناس في كل مكان يقلقون من المرض، ويخافون الموت. ونحن لا نخشى سوى قرقعة أقدام الحرس، وشعارنا كان (الموت ولا شرطي). وهذا المسمع وحده كفيلا بأن يبعث الجبن والخور داخل أي كائن بشري.
لا أننا ورغم كل هذا الألم، كنا لا نضعف أمامهم. ولذلك اعتقد إن الله يحب السجناء المظلومين، فهو دائما يمدهم بالعزم والعناد.. لا وقت لدينا للراحة، نادمنا التعب قبل أن نولد، عطش نحمله منذ قرون.. شهقة هي كل ما أملك من شجن، فلهذا كان الصمت اقرب إليّ من نفسي، رغم انه لا يقي أحدا من شر.
وأجدى هنا من الكلام.. وجع يستصرخ السوط يضرب, وأنا أصرخ آخ.. آخ.. يضرب.. آخ.. أقع أرضا لأنهض للسوط ثانية.. كل منا يعيش واقعه، السجين له واقعه الخاص، وكذلك السجان، كلانا حقيقة.
أفكر أحيانا في أشياء دقيقة المعنى، فأنا متأكد أنهم ليسوا بحاجة إلى سجني أو سجن سواي، لكنهم بحاجة إلى سجن الأمل الذي يحتوينا، علينا أن لا نفقد فطرتنا، لابد أن نتسلح بهذا الوعي، حينها فعلا، يعتبر الصمت ابلغ كلام في زمن الخرس.. يسألني السجناء أحيانا لِمَ سُجنت؟ وكأن السجن يحتاج إلى ذنب في العراق، ولكن الوهم يعلو أحيانا، فلا يقدر أن يلوي أعنة غرور الإنسان، عقل أو ضمير، فينشأ أبناء الوهم الأغبر، وهم يرون الليل فجرا ويكبرون عميانا..
نشأتُ ولم أكن اعلم أني ابن نعيم زائف، وخبز حرام مديوف بدم الفقراء.. لستُ عقوقا كي ارجم أبي بالشبهات.. دم.. دم.. دم.. دمُ من هذا يا أبي؟ يجيبني: زهو حضارات عمرتها الفرسان يا بني!! يا أبي يا أبي هل بعتم التواريخ أيضا؟ وهكذا شمخ الصمتُ عنيدا داخل ذات هدمتها أسوارها.. استجدي الرحمة من الناس.. من يهب عيني غفوة حلال، ارحموني يرحمكم الله.. فيجيبني صدى صوت من داخل روحي.. ابشر بالفوز القريب..
أسأل نفسي كيف، وأنا ابن السهم الذي يحز وريد الرضع باليتم؟
كيف وأنا ابن من يوزع الثكل بين الأمهات، ويرمل الزوجات قربة لوجه كرسي اعور.. خذ تقريرين أو ثلاثة لتبني دار سعدك يا بني
هذا رأس يتيم بلا أب... وهذا رأس غريب لا نعرف له ناسا... وهذا رأس وحيد ليس له أهل.. وذاك رأس عليل دون سيفك سيموت.. وذاك.. وذاك.. وذاك.. وريقاتك أبي تتدلى بحبال المشانق، وعلى أطرافها تقبع السجون.. ارفع يد الدعاء يا رب ارحمني.. واجلس أمام هيبة الجلال.. ألا مجال للتوبة يا شعب؟ فأنا بالله وبك استغيث..
أنا الذي أكلت أكباد أبنائك دون أن ادري.. وضحكت على نحيب الناس، وربما ضحكتُ بدمعة يتيم دون أن ادري، وبعد هذا التفت وريقة من وريقات أبي، حول رقبة ولد لم يطاوع أباه على الذل..
هنا أهلي وإخوتي وناسي.. وهذا الصمت الذي استفز السؤال، كاد أن يفجّرني، فأنا اليوم سعيد، لأني أخ... كل أفق ينتظر المطر.. فمن يريد أن يعرف حجمنا الطبيعي، فلينظر لعين السجان.؟!
ثمة مطر اسود، يعجن من هذا الدم خبز زاده الذليل.. هو منظر ألفناه، وما زال يرعبنا هذا النشيج، منذ أن قتل قابيل هابيل... يستشري القتل من اجل ذات واهمة، وبضع طريق في صحراء، تتيه فيها الخطوات.
أنا ما زلت أعجب، كلما أرى مثقفا ما زال يعيش، كيف لم يقتل لحد الآن ؟
اللهم إنا لا نملك سوى يدك، يد نلوذ بها إليك