وهو لقب شريف عظيم مدح الله تبارك وتعالى به مريم (عليها السلام) في القرآن المجيد قال تعالى: ﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾[1].
ولقب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة الطاهرة ب الصديقة الكبرى قال (صلى الله عليه وآله): (وَهِيَ اَلصِّدِّيقَةُ اَلْكُبْرَى وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ اَلْقُرُونُ اَلْأُولَى)[2].
والصديق على وزن فعيل من أبنية المبالغة كما يقال: وهو كثير الصدق، والصدق نقيض الكذب، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾[3]
والصديق والصديقة بالتخفيف: الخل والمحب، رجلا أو امرأة، والصديق يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
وبديهي أن مقام الصدق والاستقامة في القول والفعل يأتي تلو مقام النبوة ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾[4]
وقال أيضا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾[5]
وقال أيضا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[6]
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام): (هَذَا خَيْرُ اَلْأَوَّلِينَ، هَذَا سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ، وَ سَيِّدُ اَلصِّدِّيقِينَ، وَ إِمَامُ اَلْمُتَّقِينَ، وَ قَائِدُ اَلْغُرِّ اَلْمُحَجَّلِينَ)[7].
وقد مدح القرآن الكريم يحيى بن زكريا ونعته بالتصديق فقال: ﴿...أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا...﴾ [8].
روي أنه لما (جَاءَ بِهَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى اِمْرَأَتِهِ فَكَفَى اللهُ مَرْيَمَ مَؤونَةَ اَلْجَوَابِ عَنِ اَلسُّؤَالِ فَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَى أُخْتِهَا وَهِيَ اَلْكُبْرَى وَمَرْيَمُ اَلصُّغْرَى لَمْ تَقُمْ إِلَيْهَا اِمْرَأَةُ زَكَرِيَّا فَأَذِنَ اللهُ لِيَحْيَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَنَخَسَ فِي بَطْنِهَا وَأَزْعَجَهَا وَنَادَى أُمَّهُ تَدْخُلُ إِلَيْكِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ مُشْتَمِلَةً عَلَى سَيِّدِ رِجَالِ اَلْعَالَمِينَ فَلاَ تَقُومِينَ إِلَيْهَا فَانْزَعَجَتْ وَقَامَتْ إِلَيْهَا وَسَجَدَ يَحْيَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ فَذَلِكَ أَوَّلُ تَصْدِيقِهِ)[9].
وإنما مدحت مريم ووصفت ب «الصديقة» لصدقها في دعواها أن عيسى منها ولم يمسسها بشر، فشهد الله لها بالصدق، فصارت صديقة لأن الله صدقها.
وسميت فاطمة الزهراء (عليها السلام): الصديقة الكبرى (عليها السلام) لأنها صدقت بوحدانية الحق تعالى ونبوة أبيها وإمامة بعلها وإمامة أبناءها المعصومين واحدا بعد واحد وهي في رحم أمها وعند ولادتها.
ثم إنها كانت - وهي طفلة صغيرة - أول من سبق إلى التصديق بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أمها، وعاشت في كنف الرسالة، واقتدت في جميع أحوالها وأفعالها وأقوالها بمربيها العظيم، وأكملت منذ طفولتها ملكاتها القدسية النفسانية، وعاشت مع الصادقين والصديقين، وقد وصفها أبوها - وهو أصدق القائلين وأفضل الصديقين - بأنها «الصديقة الكبرى» وفضلها بذلك على مريم العذراء، وقد قال: «فاطمة مريم الكبرى».
وشهد لها بذلك - أيضا - عائشة بنت أبي بكر على ما رواه المشاهير والنحارير من العلماء أنها قالت مرارا «ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها»[10].
وبناء على ما مر، فقد اتفق المخالف والمؤالف على أن فاطمة الزهراء هي الصديقة الكبرى قولا وقلبا وفعلا، لم تكذب قط كذبة واحدة، وكانت تفعل ما تقول، ولم تتخلف قط في أداء أي تكليف أو امتثال أي أمر، وكان لها في ذلك صدق نية وعزم وثبات ومداومة ومراقبة تامة.
قال أهل التحقيق: إن التصديق يلازمه التبعية في الأقوال والأفعال، كما صنع يحيى (عليه السلام) حين صدق بنبوة عيسى (عليه السلام) وتابعه متابعة كاملة من المهد إلى اللحد.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)[11].
وقد صدقت فاطمة (عليها السلام) بما أمر الله وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) واتبعته، ولا شك أن التابع يعد من المتبوع، فهي من النبي والنبي منها لاتحاد التابع والمتبوع المذكور في قوله (فمن تبعني فإنه مني)، إضافة إلى جهة النسب والقرابة، والأبوة والنبوة، وأما حديث «فاطمة مني وأنا من فاطمة» فشرف آخر وفضيلة خاصة.
فالصِدّيقة ثاني الأسماء المباركة للسيدة فاطمة عليها السلام وهو معروف ومذكور كثيرًا على لسان أهل البيت عليهم السلام، وقد سمّاها به الله تبارك وتعالى إجلالاً وإكراماً لمقامها السامي ولمّا وصلت إليه من التصديق بكلّ ما آتاها الله ورسوله.
والصِدّيق هو دائم التصديق، ويكون الذي يصدّق قوله بالعمل... وهو المصدّق والصِدّيق مبالغة في الصدق والتصديق.
وأياً كان المعنى المراد من الصديق فإنّ السيدة فاطمة عليها السلام تنطبق عليها جميع الأقوال، فهي عليها السلام كانت المداومة على التصديق بما يوجبه الحقّ جلّ وعلا حيث كانت المصدّقة بكل ما أمر الله به وبأنبيائه، فهي والمعصومون عليهم السلام المصداق الأبرز لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾[12].
فهي الصدّيقة الطيّبة التي صَدَّقَتْ بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله تعالى وكانت المؤمنة بكلّ عقائدها الربّانية التي كانت تعمل على ضوء تلك القيم والمعتقدات، كما قد بُيّنت هذه المنقبة الكريمة للسيدة الزهراء عليها السلام على لسان المعصومين في أكثر من مناسبة وموقف، فقد ورد عن أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام أنّه قَالَ: (إِنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام صِدِّيقَةٌ شَهِيدَة)[13] ، حتّى إنّها معروفة بالصِدّيقة الكبرى، حيث رُوِيَ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في معرض كلامه عنها عليها السلام: (... وَهِيَ الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى، وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ الْقُرُونُ الْأُوَلُ)[14]...إذًا ففاطمة عليها السلام صدّيقة لجهة تصديقها الحقّ بما جاء عن الله عزّ وجلّ، وتصديق معتقداتها بأفعالها.
فإنّ كونها صديقة أيضاً هو أحد تجلّيات معنى العصمة في الحقيقة، إذ إنّ العصمة تستلزم دوام الصدق في القول والفعل وعدم شوب أيّ فعل أو قول ما ينافي الحقّ والصدق، وفي ذلك مزيد تعظيم وتبجيلٍ لها عليه السلام، وإشارة إلى أنّ صدقها لا يعلوه صدق، بل هي الصِدّيقة الكبرى، وإنْ وجد صِدّيق في مقابلها فليس ذلك بشيء إن لم يتوافق معها، فصدقها وقولها وفعلها المعيار، وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله هذه المسألة في حقّ الزهراء عليها السلام حيث قال: (يا عليُّ، إنّي قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك، فأنفذها، فهي الصادقة الصدوقة، ثمّ ضمَّها إليه وقبَّل رأسها، وقال: فداك أبوك يا فاطمة)[15] .
ولعلّ التركيز في صدقها وإبرازه بشكل جليّ وكبير لحكمة كشف عنها الزمن، نعني بذلك ما حصل في قضية هبة رسول الله صلى الله عليه وآله فدك وحقّها في الإرث...، حيث كان لصدق الزهراء عليها السلام الدور الكبير في الدفاع عن حقوقها، والتي أدّت إلى الاعتراف بصدق مُدّعاها في قضية فدك، فقال: ( وَأَنْتِ يَا خِيَرَةَ النِّسَاءِ وَابْنَةَ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَادِقَةٌ فِي قَوْلِكِ سَابِقَةٌ فِي وُفُورِ عَقْلِكِ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ عَنْ حَقِّكِ وَلَا مَصْدُودَةٍ عَنْ صِدْقِك...)[16].
وليست معركة الصدق محصورةٌ بالسيدة فاطمة عليها السلام، إذا إنّ باب الصدق والتصديق مفتوحٌ للجميع، وإن كانت عليها السلام هي النبراس، ولكنّها تعلّمنا أنه ينبغي للفرد أن يحيا بصدق بمعنى أن يقترن قوله الصادق بفعله الصادق وبعقيدته الحقّة، فيكون سلوكنا عاكسًا لمعتقدنا وقولنا، لا أن يكون قولنا في مكان وفعلنا مخالف له، وقد كبر ذلك عند الله كثيرًا حيث يقول جلّ جلاله في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[17]. كما تعلّمنا أن نكون نحن بأنفسنا نبراسًا للصدق بحيث يشكّل قولنا القول الفصل، فالصادق هو الشاهد على غيره ولا يردّ قوله بقول، والحياة الاجتماعيّة أصرح دليل على ما نقول، إذ إنّه من انتهج الصدق في حياته يكون هو ملجأً لغيره في حسم الأمور والبناء عليها والتصرّف وفقها، وهو ما ترتضيه الزهراء عليها السلام لمواليها.
[1] سورة المائدة، الآية: 75.
[2] بحار الأنوار، ج43، ص105.
[3]سورة الشعراء، الآية: 84.
[4] سورة النساء، الآية: 69.
[5] سورة الحديد، الآية: 19.
[6] سورة التوبة، الآية: 119.
[7] اثبات الهداة، ج3، ص208.
[8] سورة آل عمران، الآية: 39.
[9] بحار الأنوار، ج14، ص185.
[10] رواه الحاكم في مستدركه، ج 3، ص 160.
[11] الأمالي (للطوسی)، ج1، ص45.
[12] سورة الحديد، الآية: 19.
[13] الكافي، ج1، ص 458.
[14] الأمالي، ص 668.
[15] بحار الأنوار، ج 22، ص 491.
[16] الاحتجاج، ط1، ج1، ص 104.
[17] سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
ولقب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة الطاهرة ب الصديقة الكبرى قال (صلى الله عليه وآله): (وَهِيَ اَلصِّدِّيقَةُ اَلْكُبْرَى وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ اَلْقُرُونُ اَلْأُولَى)[2].
والصديق على وزن فعيل من أبنية المبالغة كما يقال: وهو كثير الصدق، والصدق نقيض الكذب، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾[3]
والصديق والصديقة بالتخفيف: الخل والمحب، رجلا أو امرأة، والصديق يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
وبديهي أن مقام الصدق والاستقامة في القول والفعل يأتي تلو مقام النبوة ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾[4]
وقال أيضا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾[5]
وقال أيضا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[6]
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام): (هَذَا خَيْرُ اَلْأَوَّلِينَ، هَذَا سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ، وَ سَيِّدُ اَلصِّدِّيقِينَ، وَ إِمَامُ اَلْمُتَّقِينَ، وَ قَائِدُ اَلْغُرِّ اَلْمُحَجَّلِينَ)[7].
وقد مدح القرآن الكريم يحيى بن زكريا ونعته بالتصديق فقال: ﴿...أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا...﴾ [8].
روي أنه لما (جَاءَ بِهَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى اِمْرَأَتِهِ فَكَفَى اللهُ مَرْيَمَ مَؤونَةَ اَلْجَوَابِ عَنِ اَلسُّؤَالِ فَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَى أُخْتِهَا وَهِيَ اَلْكُبْرَى وَمَرْيَمُ اَلصُّغْرَى لَمْ تَقُمْ إِلَيْهَا اِمْرَأَةُ زَكَرِيَّا فَأَذِنَ اللهُ لِيَحْيَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَنَخَسَ فِي بَطْنِهَا وَأَزْعَجَهَا وَنَادَى أُمَّهُ تَدْخُلُ إِلَيْكِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ مُشْتَمِلَةً عَلَى سَيِّدِ رِجَالِ اَلْعَالَمِينَ فَلاَ تَقُومِينَ إِلَيْهَا فَانْزَعَجَتْ وَقَامَتْ إِلَيْهَا وَسَجَدَ يَحْيَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ فَذَلِكَ أَوَّلُ تَصْدِيقِهِ)[9].
وإنما مدحت مريم ووصفت ب «الصديقة» لصدقها في دعواها أن عيسى منها ولم يمسسها بشر، فشهد الله لها بالصدق، فصارت صديقة لأن الله صدقها.
وسميت فاطمة الزهراء (عليها السلام): الصديقة الكبرى (عليها السلام) لأنها صدقت بوحدانية الحق تعالى ونبوة أبيها وإمامة بعلها وإمامة أبناءها المعصومين واحدا بعد واحد وهي في رحم أمها وعند ولادتها.
ثم إنها كانت - وهي طفلة صغيرة - أول من سبق إلى التصديق بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أمها، وعاشت في كنف الرسالة، واقتدت في جميع أحوالها وأفعالها وأقوالها بمربيها العظيم، وأكملت منذ طفولتها ملكاتها القدسية النفسانية، وعاشت مع الصادقين والصديقين، وقد وصفها أبوها - وهو أصدق القائلين وأفضل الصديقين - بأنها «الصديقة الكبرى» وفضلها بذلك على مريم العذراء، وقد قال: «فاطمة مريم الكبرى».
وشهد لها بذلك - أيضا - عائشة بنت أبي بكر على ما رواه المشاهير والنحارير من العلماء أنها قالت مرارا «ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها»[10].
وبناء على ما مر، فقد اتفق المخالف والمؤالف على أن فاطمة الزهراء هي الصديقة الكبرى قولا وقلبا وفعلا، لم تكذب قط كذبة واحدة، وكانت تفعل ما تقول، ولم تتخلف قط في أداء أي تكليف أو امتثال أي أمر، وكان لها في ذلك صدق نية وعزم وثبات ومداومة ومراقبة تامة.
قال أهل التحقيق: إن التصديق يلازمه التبعية في الأقوال والأفعال، كما صنع يحيى (عليه السلام) حين صدق بنبوة عيسى (عليه السلام) وتابعه متابعة كاملة من المهد إلى اللحد.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)[11].
وقد صدقت فاطمة (عليها السلام) بما أمر الله وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) واتبعته، ولا شك أن التابع يعد من المتبوع، فهي من النبي والنبي منها لاتحاد التابع والمتبوع المذكور في قوله (فمن تبعني فإنه مني)، إضافة إلى جهة النسب والقرابة، والأبوة والنبوة، وأما حديث «فاطمة مني وأنا من فاطمة» فشرف آخر وفضيلة خاصة.
فالصِدّيقة ثاني الأسماء المباركة للسيدة فاطمة عليها السلام وهو معروف ومذكور كثيرًا على لسان أهل البيت عليهم السلام، وقد سمّاها به الله تبارك وتعالى إجلالاً وإكراماً لمقامها السامي ولمّا وصلت إليه من التصديق بكلّ ما آتاها الله ورسوله.
والصِدّيق هو دائم التصديق، ويكون الذي يصدّق قوله بالعمل... وهو المصدّق والصِدّيق مبالغة في الصدق والتصديق.
وأياً كان المعنى المراد من الصديق فإنّ السيدة فاطمة عليها السلام تنطبق عليها جميع الأقوال، فهي عليها السلام كانت المداومة على التصديق بما يوجبه الحقّ جلّ وعلا حيث كانت المصدّقة بكل ما أمر الله به وبأنبيائه، فهي والمعصومون عليهم السلام المصداق الأبرز لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾[12].
فهي الصدّيقة الطيّبة التي صَدَّقَتْ بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله تعالى وكانت المؤمنة بكلّ عقائدها الربّانية التي كانت تعمل على ضوء تلك القيم والمعتقدات، كما قد بُيّنت هذه المنقبة الكريمة للسيدة الزهراء عليها السلام على لسان المعصومين في أكثر من مناسبة وموقف، فقد ورد عن أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام أنّه قَالَ: (إِنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام صِدِّيقَةٌ شَهِيدَة)[13] ، حتّى إنّها معروفة بالصِدّيقة الكبرى، حيث رُوِيَ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في معرض كلامه عنها عليها السلام: (... وَهِيَ الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى، وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ الْقُرُونُ الْأُوَلُ)[14]...إذًا ففاطمة عليها السلام صدّيقة لجهة تصديقها الحقّ بما جاء عن الله عزّ وجلّ، وتصديق معتقداتها بأفعالها.
فإنّ كونها صديقة أيضاً هو أحد تجلّيات معنى العصمة في الحقيقة، إذ إنّ العصمة تستلزم دوام الصدق في القول والفعل وعدم شوب أيّ فعل أو قول ما ينافي الحقّ والصدق، وفي ذلك مزيد تعظيم وتبجيلٍ لها عليه السلام، وإشارة إلى أنّ صدقها لا يعلوه صدق، بل هي الصِدّيقة الكبرى، وإنْ وجد صِدّيق في مقابلها فليس ذلك بشيء إن لم يتوافق معها، فصدقها وقولها وفعلها المعيار، وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله هذه المسألة في حقّ الزهراء عليها السلام حيث قال: (يا عليُّ، إنّي قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك، فأنفذها، فهي الصادقة الصدوقة، ثمّ ضمَّها إليه وقبَّل رأسها، وقال: فداك أبوك يا فاطمة)[15] .
ولعلّ التركيز في صدقها وإبرازه بشكل جليّ وكبير لحكمة كشف عنها الزمن، نعني بذلك ما حصل في قضية هبة رسول الله صلى الله عليه وآله فدك وحقّها في الإرث...، حيث كان لصدق الزهراء عليها السلام الدور الكبير في الدفاع عن حقوقها، والتي أدّت إلى الاعتراف بصدق مُدّعاها في قضية فدك، فقال: ( وَأَنْتِ يَا خِيَرَةَ النِّسَاءِ وَابْنَةَ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَادِقَةٌ فِي قَوْلِكِ سَابِقَةٌ فِي وُفُورِ عَقْلِكِ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ عَنْ حَقِّكِ وَلَا مَصْدُودَةٍ عَنْ صِدْقِك...)[16].
وليست معركة الصدق محصورةٌ بالسيدة فاطمة عليها السلام، إذا إنّ باب الصدق والتصديق مفتوحٌ للجميع، وإن كانت عليها السلام هي النبراس، ولكنّها تعلّمنا أنه ينبغي للفرد أن يحيا بصدق بمعنى أن يقترن قوله الصادق بفعله الصادق وبعقيدته الحقّة، فيكون سلوكنا عاكسًا لمعتقدنا وقولنا، لا أن يكون قولنا في مكان وفعلنا مخالف له، وقد كبر ذلك عند الله كثيرًا حيث يقول جلّ جلاله في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[17]. كما تعلّمنا أن نكون نحن بأنفسنا نبراسًا للصدق بحيث يشكّل قولنا القول الفصل، فالصادق هو الشاهد على غيره ولا يردّ قوله بقول، والحياة الاجتماعيّة أصرح دليل على ما نقول، إذ إنّه من انتهج الصدق في حياته يكون هو ملجأً لغيره في حسم الأمور والبناء عليها والتصرّف وفقها، وهو ما ترتضيه الزهراء عليها السلام لمواليها.
[1] سورة المائدة، الآية: 75.
[2] بحار الأنوار، ج43، ص105.
[3]سورة الشعراء، الآية: 84.
[4] سورة النساء، الآية: 69.
[5] سورة الحديد، الآية: 19.
[6] سورة التوبة، الآية: 119.
[7] اثبات الهداة، ج3، ص208.
[8] سورة آل عمران، الآية: 39.
[9] بحار الأنوار، ج14، ص185.
[10] رواه الحاكم في مستدركه، ج 3، ص 160.
[11] الأمالي (للطوسی)، ج1، ص45.
[12] سورة الحديد، الآية: 19.
[13] الكافي، ج1، ص 458.
[14] الأمالي، ص 668.
[15] بحار الأنوار، ج 22، ص 491.
[16] الاحتجاج، ط1، ج1، ص 104.
[17] سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
تعليق