سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلمي *** منكِ البكــاءُ إذا الحِمامُ دهاني
لا تحرقي قلبي بدمـــعكِ حسرةً *** ما دامَ منِّي الروحُ في جثماني
فإذا قتــــــلتُ فأنتِ أولى بالذي *** تأتيـــــــنه يا (خيرة النسوان)
هذه الأبيات قالها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) مخاطباً بها ابنته السيدة سكينة (ع) يوم عاشوراء مصبِّراً إياها على فقده، وهي تعطي صورة واضحة وجليّة عن مكانة السيدة سكينة العظيمة في نفس أبيها. فبكاؤها عبّر عنه (ع) بأنه (يحرق القلب) فهو لا يريد أن ينظر إلى دموعها وهو حي فإن ذلك يؤلمه لمكانة ابنته وخاصيتها في نفسه الشريفة. كما بيّنت الأبيات منزلتها السامية في الفضيلة والرفعة بين نساء أهل زمانها حين وصفها بـ (خيرة النسوان) فهي من البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا، وهو البيت الذي لا يقاس به بيت مهما بلغ في الدرجة الرفيعة. في هذا البيت الذي يفوح منه أريج النبوة وتخفق فيه أجنحة الملائكة ويتردد في أرجائه صدى الوحي ولدت السيدة سكينة. أما اُمّها وأم أخيها عبد الله الرضيع المذبوح يوم الطف فهي السيدة: الرباب بنت امرئ القيس بن عدي القضاعي. وُصفت السيدة سكينة بـ (سيّدة نساء عصرها) لكمالها وأخلاقها وتقواها وأدبها وفصاحتها وعبادتها حيث يدلنا قول أبيها الإمام الحسين على مدى تعلقها بالله في قوله: وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله. وهذه الكلمة لها دلالاتها العظيمة خاصة إنها صدرت من معصوم. كما تدلنا الأبيات التي قالها على مدى تعلقه بها وتعلقها به حينما قال: لعمـــــركَ أنّنـي لاُحـبّ داراً *** تـحلّ بهـا سَكيـنــة والربابُ
أحبّهما وأبــــــذل جـلّ مـالي *** ولـيس للائمـي فـيهـا عتابُ
ولستُ لهم وإن عتبوا مطيعاً *** حيـاتي أو يعلّيــــني الترابُ
وقد رُوي إن سَكينة هو لقبها لا اسمها وإن اسمها هو آمنة (1) وقد اعتمد هذا القول الشيخ عباس القمي حيث قال: إن اسمها آمنة وقيل أمينة, وإنما أمها الرباب لقبتها بسكينة (2) وقد نقل القمي قوله هذا عن ابن خلكان في ترجمتها (3) كما قال بذلك ابن العماد الحنبلي (4) والشبلنجي (5), وأعتمد هذا الرأي السيد المحقق عبد الرزاق المقرم (6) والسيد محسن الأمين (7). وعلق الشيخ عباس القمي على ذلك بالقول: ويظهر أن أمها إنما أعطتها هذا اللقب لسكونها وهدوئها. وعلى ذلك فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف التي بعدها، لا كما يجري على الألسن من ضم السين وفتح الكاف. (8)زواجها وفرية الزبيريين !
تزوجت السيدة سكينة من ابن عمها عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) المعروف بـ الأكبر وهو أخو القاسم الشهيد يوم الطف, وأمهما رملة, ولم تتزوج من غيره لا قبله ولا بعده، أما خبر زواجها من مصعب بن الزبير وغيره فهي أخبار كاذبة لفقتها أيدي السياسة من الوضاعين والأفاكين والكذابين الذين كانوا يقتاتون على الموائد الأموية والعباسية وقد باعوا ذممهم وضمائرهم للحكام. وهذه الأخبار كغيرها من الأخبار والروايات المدسوسة التي ألصقت زوراً وبهتاناً بسيرة السيّدة سكينة مثل خبر عقدها لمجالس الشعر والتي حاول من خلالها أعداء أهل البيت وآل الزبير بالذات نسبتها إلى البيت النبوي الشريف لدفع الشبهة عن ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير التي كانت تجتمع مع الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة والمغنيات يغنين لهم. فلم تزل أنفاس آل الزبير تنفث سمها وحقدها وعدائها على أهل البيت منذ يوم الجمل، عندما فتح الزبير وابنه عبد الله باب العداوة والبغضاء بين الأسرتين بخروجهما لقتال أمير المؤمنين (ع) ونكث بيعته, وقد توارث أولاده من بعده هذا الحقد الأعمى, فكانوا لا يدعون فرصة للنيل والانتقاص من العلويين والافتراء والتجسس عليهم وتلفيق الاتهامات لهم وتحريض الحكام عليهم لإراقة دمائهم. فكان آل الزبير سعاة حكام بني أمية وبني العباس وجواسيسهم ومتملقيهم في كل زمان ومكان, وقد بدأ هذه السعاية عبد الله بن الزبير لدى معاوية ضد الإمام الحسن (ع). وتوارث هذه المهنة أبناؤه وأحفاده, فكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله الزبير وراء قتل يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على يد هارون العباسي، وكانت العداوة لدى ابنه بكار أشد فكان يبلغ هارون عنهم ويسئ بأخبارهم ويدلس عليهم, وقد قدر هارون العباسي له هذا البغض لأهل البيت وجازاه على ذلك البغض فولّاه المدينة وأمره بالتضييق على آل علي فلم يألُ جهداً في ذلك. وكان لبكار هذا ابناً اسمه الزبير فاق أباه وجده في شدة بغضه لآل علي, فابتكر أساليب دنيئة للنيل منهم فلم تقتصر أعماله على السعاية بهم فقط, بل تعدت الى الطعن في أعراضهم ووصمهم بما ليس فيهم بمفترياته وأكاذيبه. أجل لقد بلغت به الخسة والوضاعة أن يدلس ويفتري على أقدس وأطهر بيت في الوجود والذي قال فيه القران الكريم: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً), ويتعرّض له بما يشينه, وهو ما جعل بني علي يثورون عليه للانتقام منه وقطع هذا لسانه كما ذكر ابن خلكان: كان ــ أي الزبير بن بكار ــ يضع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ففر من مكة إلى بغداد أيام المتوكل. (9)
وكأن هذا الرجل لم يشف غليل حقده ما أريق من دمائهم الطاهرة على يد الأمويين والعباسيين, فبلغت دناءته أن مدّ اللسان في أعراضهم والطعن فيهم والحط من قدرهم بمفترياته, فنفث الشيطان على لسانه ليروي أن السيدة الطاهرة سكينة كان يجتمع عندها الشعراء والمغنون ويحكمونها فيما شجر بينهم من التفاضل بين الشعراء ليحول استغراقها مع الله كما وصفها أبوها (ع) إلى استغراق في مجالسة الشعراء والمغنين ثم يروي إن الشاعر عمر بن أبي ربيعة تغزل بها في محضرها ــ أعوذ بالله من هذا الشيطان الرجيم ــ ولكن إن عُمي من نقل هذه الروايات أو تعاموا عن الحقيقة فإن التاريخ كفيل بإظهارها, فالشواهد التاريخية تدل على أن هذه الروايات كان (أبطالها) آل الزبير أنفسهم, وهذه الوصمة ملتصقة بالزبير بن بكار نفسه, فأراد أن يتنصّل منها, ودله حقده على إلصاقها بغيره فنسبها إلى أطهر بيت في الوجود, كما سنوضح ذلك في هذا الموضوع. تتلخص الرواية التي وضعها الزبير بن بكار ونقلها أبو الفرج الأصفهاني (10)
: إنه اجتمع كل من راوية جرير، وكثير، وجميل، ونصيب، والأحوص ــ الشعراء الأمويون ــ فافتخر كل واحد منهم بصاحبه فحكّموا سكينة بنت الحسين فحكمت بينهم بعد أن ذكرت بيتاً غزلياً لكل واحد من أصحابهم ثم أعطت رأيها في كل واحد منهم والرواية طويلة آثرنا عدم ذكرها مفصلاً فمن شاء الاطلاع عليها فقد أشرنا إلى المصدر. وهذه الرواية الموضوعة تنفي نفسها بنفسها فكيف يجتمع رواة أكبر خمسة شعراء في ذلك العصر عند امرأة عُرفت بالعبادة كما قال أبوها عنها, ولم يُسمع منها شعر سوى سبعة أبيات رثائية مفجعة قالتها في رثاء والدها وهي في حالة الأسر. ويستطيع قولها أي إنسان في ذلك الوقت فقد عزيزاً عليه, فكيف وهي وقد رأت ما جرى على أبيها وأخوتها وأعمامها وبني عمومتها وأهل بيتها من فجائع ومصائب في كربلاء تجل عن الوصف ؟ وهذه الأبيات السبعة لا تؤهل قائلها أو قائلتها لمثل هذا (المنصب) في ذلك الوقت الذي كان يعج بالشعراء والشاعرات فلو نُسبت هذه الرواية الى الخنساء لما استطاع أحد تصديقها لفجيعتها بأخيها صخر وهو إنسان واحد فكيف بمن فقدت أباها سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة وأهل بيتها كلهم ؟ لعن الله واضع هذه الرواية وناقلها، وقد سُئل الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (قدس سره) عن هذه الرواية فقال: لم يذكرها ابن قتيبة ولا ابن طيفور في بلاغات النساء مع إنهما أقدم من أبي الفرج. وقال أيضاً: أبو الفرج كتابه كتاب لهو وقد يأخذ عن الكذابين والذي جاءت عنه الرواية كذاب. (11).
وقال الشيخ جعفر النقدي: أما وصف الحسين (ع) لابنته سكينة من غلبة الاستغراق مع الله تعالى فيكذب الأنقال المروية عن الزبير بن بكار وأضرابه من النواصب كعمه مصعب الزبيري من اجتماع الشعراء عندها ومحاكمتها بينهم وأمثال ذلك مما ينافي في شأن خفرة من خفرات النبوة وعقيلة من عقائل بيت العصمة. وإن تعجب فاعجب من أبي الفرج الأصفهاني ومن حذا حذوه أن ينقلوا مفتريات هؤلاء في كتبهم من غير فكر ولا تروي على أن الزبير بن بكار كان عدواً لآل علي بل لسائر بني هاشم وكان يصنع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ففر من مكة الى بغداد أيام المتوكل ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه وفيات الأعيان (12).
ومما يدل على كذب واضع هذه الرواية أيضاً هو أن أبا الفرج الأصفهاني نفسه روى نفس هذا الاجتماع مع الشعراء ونفس الحديث ولكن برعاية عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي ! (13) كما روى اجتماعاً مشابهاً برعاية امرأة من بني أمية زعم أن صاحب الرواية قد أخفى اسمها ! (14)
ولكن هذا الزعم لا ينطلي على القارئ في إخفاء الأصفهاني اسم تلك المرأة الأموية فإنها تمت له بصلة قرابة فهو من المعروف من بني أمية وأراد ستر فضائح بني أمية فاستحى من ذكر اسمها ولكنه لم يستح من إلصاق ما لحق به من العار ببنات الرسول. أظن أن هذه الأدلة القطعية التي ذكرناها كافية لنفي هذه الرواية الموضوعة وإتماماً للفائدة وبياناً للسبب الذي جعل الزبير بن بكار الكذاب يضع رواية الغناء مع عمر بن أبي ربيعة في سكينة بنت الحسين سننقل روايات الأصفهاني في ذلك لأنها ستوضح كثيراً من الأمور الخافية الرواية الأولى رواها أبو الفرج الأصفهاني عن الزبير بن بكار وملخصها هو: اجتماع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره فتشوّقن إليه وتمنينه فقالت سكينة بنت الحسين: أنا لكن به فأرسلت اليه رسولاً وواعدت صواحباتها فوافاهن عمر على راحلته فحدثهن حتى أضاء الفجر....
(15) هذه هي الرواية التي مُلئت إفكاً وزوراً وبهتاناً من قبل لؤم زبيري وحقد أموي وهي والله تقرح القلب...، لعن الله الزبير بن بكار وأبا الفرج الأصفهاني. ولكن الحقيقة يجب أن تظهر مهما طال بها الزمن فستعرف عزيزي القارئ من هي سكينة هذه التي واعدت عمر بن أبي ربيعة ...؟ فقد ذكر الأصفهاني في رواية ثانية نفس هذه الحادثة ولكنه لم ينسب سكينة إلى الحسين واكتفى باسم سكينة فقط (16)
!! ولكنه ذكر في رواية ثالثة وهي: إن عمر بن أبي ربيعة كان يلتقي بـ (سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير) وذكر نفس الاجتماع معها في (الجنبذ) ـــ أي القبة ـــ ومعهما جاريتان له تغنيان هما (البغوم) و (أسماء). وقد ذكرهما عمر بن أبي ربيعة في شعره بقوله:
صرمت حبلك البغوم وصدت *** عنك في غير ريبة أسماء (17)
وأظن أن الأمر قد اتضح الآن.. فقد أراد الزبير بن بكار دفع العار الذي لحق به وإلصاقه بآل النبي (ص).
تعليق