جرت عادة الباحثين والكاتبين حول حياة السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها عند التعرض لاسمها المبارك (البتول) البحث حول قانون العلية والمعلولية كقانون وسنة ربانية جعلها البارئ عزّ وجلّ منذ الخلقة الاولى، فنجد أنه لا يوجد معلول دو علة مؤثرة فيه أو لا توجد أسباب إلا ولها مسبب حقيقي، وبعبارة أخرى لايوجد أي شيء دون أن تكون له علة مؤثرة فيه، وعلى هذا الأساس نجد أن الكثير قد طعنوا في اسمها الذي نحن بصدد الوقوف معه في هذه الصفحات حيث يقتضي اسم البتول مخالفة قانون العلية كل ذلك لما لهذا الاسم (البتول) من معنى مؤثر وفاعل على طبيعة الحياة البشرية، ولو أن هؤلاء الذين وقفوا موقف التعنت لهذه الكرامة ولهذا المقام السامي وتأملوا في مراجعة القوانين الكونية والسنن الإلهية لوجدوا أن هناك الكثير من هذه القوانين قد خرقت وبتأييد من الله تعالى وهذا ما نجده من خلال مراجعة القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول للتشريع الإسلامي ولقضايا المهمة التي ربما لا يوجد لها حل، لقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾[1]، أي لا يوجد شيء من الامور التي تعرض لنا في الحياة إلا وله أساس ومعرفة وبيان من القرآن الكريم، أما من الذي يستطيع إدراك هذا البيان ومعرفته المعرفة الحقة فهذا ما نراه واضحاً بالرسول صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده: ثم من بعد ذلك نرجع إلى الذين أوصى بهم الأئمة بالعودة اليهم بعد غيبة القائم عجل الله تعالى فرجه (وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَللَّهِ)[2]، إذن لا بد بالنتيجة النهائية أن نرجع إلى القرآن الكريم ونرى هل ان هناك قوانين شذ عنها الكثير من الناس وحسب ما ارتضاه تبارك وتعالى ؟
(نعم) بهذا القول سوف يجيبنا القرآن الكريم فثمة هناك شواهد واضحة البرهان جلية البيان ، صريحة في معناها متقدة في مغزاها أثبتت من خلال واقعيتها مدى صحة مدركتيها فهذه النار التي جعلت لإبراهيم عليه السلام برداً وسلاماً وخالفت قوانين الطبيعة في سلوكها وخاصيتها المحرقة وهذه شجرة من يقطين أنبتت ليونس عليه السلام بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، مع العلم بأن حبة اليقطين تحتاج إلى مدة غير قصيرة، حتى تثبت وتورق وتستر بورقها جسم إنسان أو غير إنسان، وهكذا نجد في شذوذ الكثير من المسائل عن القوانين والسنن الإلهية، فهذه مريم مخالفة في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب مسألة قانون التناسل البشري الطبيعي، وكذلك هناك طوائف عديدة وأمثلة واضحة تدل دلالة صريحة على أنه هناك الكثير من القوانين قد خرقت بقدرة الله تعالى باعتباره هو مسبب الأسباب الطبيعي بل هو الجاعل لهذه السنن القدرة بهذه الكيفية كل هذا المقال الذي قلنا به وبيّنا الشيء اليسير منه لكي نرجع إلى قضية فاطمة سلام الله عليها في كونها بتول منقطعة عن الحيض، فهل هذا اخلاف وتغير في قانون الطبيعة أم هي كرامة من الله تعالى لها ؟
وهل لهذه مسألة وجه يخرج عنه المتحير فكره إلى الصحيح من البيان؟ نعم نقول في فاطمة عليها السلام كانت بتول بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى وسبق أن قلنا أن هذه المسألة لم تكم الفريدة من نوعها، بل توجد شواهد قرآنية عليها ومن خلال أبسط استقراء للقرآن الكريم نرى هذا الشيء الواضح.
أما بيان البتول والوقوف عليها، وبيان الوجه في ذلك فهذا ما سيظهر لنا من خلال مراجعة كتب اللغة والحديث والتاريخ لنرى كيف كانت فاطمة سلام الله عليها بتول بكل ما تحمل هذه الكلمة من مدلولات واضحة.
البتل في اللغة: القطع، وهو يرادف الفطم من حيث المعنى، وقد عرفت الزهراء عليها السلام بهذا الاسم لتفرّدها عن سائر نساء العالمين بخصائص تميزت بها، كما تدل عليه الأحاديث وأقوال أهل اللغة.
أما في الأحاديث: فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (إنّ النبي صلى الله عليه وآله سُئِلَ ما البتول؟ فإنّا سمعناك يا رسول الله تقول: إنّ مريم بتول وفاطمة بتول، فقال صلى الله عليه وآله: البتول التي لم تر حمرةً قط ـ أي لم تحض ـ فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء)[3]، وتنزيهها عن الحيض باعتباره أذىً يشير إلى علوّ مقامها وإلى خصوصية تفردت بها عن سواها، لأنّها من أهل البيت الذين طهرهم ربهم من الرجس تطهيراً، وهو أمر غير مستبعد لكثرة المؤيدات له في الأحاديث والآثار.
منها: ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (حرّم الله النساء على علي عليه السلام ما دامت فاطمة عليها السلام حية قال: قلت: كيف؟ قال: لأنّها طاهرة لا تحيض)[4].
ومنها: ما أخرجه النسائي والخطيب والمحب الطبري بالإسناد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إنّ ابنتي فاطمة حوراء آدمية، لم تحض ولم تطمث)[5].
ومنها: ما رواه ابن المغازلي وغيره بالإسناد عن أسماء بنت عميس، قالت: شهدتُ فاطمة عليها السلام وقد ولدت بعض ولدها فلم يُرَ لها دم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: (يا أسماء، إنّ فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية)[6]، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وآله قال لها: (أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرى لها دم في طمث ولا ولادة)[7].
وأمّا أهل اللغة: فقد أضافوا عدة دلالات أخرى تحكي عن منزلة الزهراء عليها السلام التي لا يدانيها أحد من نساء الاُمّة، وفيما يلي بعضها.
وقال ابن الأثير: وامرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم: وبها سمّيت مريم أمّ المسيح عليهما السلام. وسمّيت فاطمة «البتول» لانقطاعها من نساء زمانها فضلاً وديناً وحسباً. وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى.[8]
وقال الطريحي : والبتول فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، قيل : سمّيت بذلك لانقطاعها إلى الله وعن نساء زمانها فضلاً، وعن نساء الامّة فضلاً وحسباً وديناً.[9]
قال الزبيدي: روي عن الزمخشري، أنّه قال: لقبت فاطمة بنت سيد المرسلين عليها السلام بالبتول تشبيهاً بمريم عليها السلام في المنزلة عند الله تعالى.
وقال ثعلب: لانقطاعها عن نساء زمانها وعن نساء الاُمّة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً، وهي سيدة نساء العالمين، وأُمّ أولاده صلى الله عليه وآله ورضي الله عنها وعنهم.
وقال الجزري بنحو قول ثعلب، وأضاف في آخره: وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلىٰ الله.[10]
وقال به أيضاً أحمد بن يحيى على ما نقله عنه ابن منظور، وأضاف ابن منظور: امرأة متبتلة الخلق: أي منقطعة الخلق عن النساء، لها عليهنّ فضل.
وقيل: التامة الخلق. وقيل: تبتيل خلقها: انفراد كلّ شيء منها بحسنه، لا يتكل بعضه على بعض.[11]
وعن الهروي في (الغريبين)، قال: سميت فاطمة عليها السلام بتولاً؛ لأنّها بتلت عن النظير.[12]
يظهر من التأمل في كلمات أصحاب الصحاح من أهل اللغة والبيان أنهم حملوا معنى الانقطاع بالنسبة للفظ البتول محملاً جيداً وفسروه بأنه انقطاع عن نساء زمان فاطمة سلام الله عليها من ناحية العفة والفضل والدين والحسب، وكذلك حملوه على الزهد عن الدنيا وانقطاعها سلام الله عليها عن الدنيا وهذه المعاني التي حملوا اسم البتول عليها وان كانت جيدة ومفيدة وواضح من خلال السليقة العربية ومفاهيمها إلا واقع الحال والمقام لا يساعد على هذا الحمل ولا يظهر فيه نتيجة وجود مرجحات وشواهد وقرائن واضحة لمن أراد استقصاءها في معنى اسم البتول، وخير شاهد على هذه القرائن هو ما قدمناه من الروايات الواردة في المقام من الخاصة والعامة، فهي أفضل دليل على أن المراد من كلمة واسم البتول هو ما أطلقت وبينت الروايات الشريفة، فالمقول الذي نقول به ونرجحه على كلمات أهل اللغة في معنى البتول في انه هذا الاسم ظاهر في التي لم تر حمرة قط ولم تحض أبداً وهو الذي يساعد عليه المقام فتأمل في هذه الروايات المباركة.
أما ما يظهر من كلمات بعض الذين وقفوا موقف المتحير ولا يجد أي طريق لحل هذه المعضلة والتي حسب آرائهم انها مخالفة لنظام العلل والمعاليل والأسباب، وان قصية أن فاطمة سلام الله عليها لا ترى الدم ولا الحيض وأمثال هذه القذارة، فحسب قولهم انها مخالفة لحديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حيث ورد عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَنَّهُ قَالَ: (أَبَى اَللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ اَلْأَشْيَاءَ إِلاَّ بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وَجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحاً وَجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْماً وَجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَاباً نَاطِقاً عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ذَاكَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَنَحْنُ)[13]، وذلك من جهة خروجها عن هذا النظام الأكمل في الطبيعة فنقول : قد تبين الحال من خلال مراجعة القرآن الكريم وان الكثير من الشواهد القرآنية تدل دلالة قطعية على أن الله تعالى قد تصرف في ملكه وقهر الكثير من القواعد المطردة في الطبيعة الكونية «ذلت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب» «ويا مسبب الأسباب من غير سبب» .
وقد علق المحقق الهمداني (في كتابه فاطمة بهجة قلب المصطفى: ص 160 ـ 161) على هذه المسألة ببيان واضح ذو فائدة جلية ومضامين عالية وغير مخالفة لما هو الأساس من هذه المسألة حيث قال:
توجد في القرآن الكريم طائفة من القصص والوقائع والحوادث لا يساعد عليها جريان العادة المشهورة في عالم الطبيعة على نظام العلّة والمعلول المعهودة، كحمل مريم سلام الله عليها، فإنّها مع أنّه لم تمسسها بشر حملت بولدها عيسى عليه السلام ، وكحمل سارة بإسحاق عليه السلام مع أنّها كانت عجوزاً، وكحمل امرأة زكريّا بيحيى مع أنّها كانت عاقراً، وأمثال ذلك في المعجزات وخوارق العادات التي يثبتها القرآن لعدّة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، فإنّ كلّ ذلك امور خارقة للعادة.
فبعد هذا البيان يظهر للقارئ الكريم بطلان ما يقال: إنّ الحيض في النساء من لوازم الخلقة، فخلوّ المرأة عنه نقص، وإنّ العادة الشهريّة علامة وسبب للولادة؛ لأنّا نقول: ليس الخروج من مضايق الطبيعة نقصاً بل ربما يكون كرامة يا لها من كرامة! على أنّ الحيض بنفسه قذارة ورجس، كما قال الله عزّ وجلّ ﴿قل هو أذىً﴾ أي قذارة يتأذّى منها، فإنّ المرأة حين حدثت لها العادة الشهريّة تنفعل وتخجل وتنكسر ولا ترضى أن تصرّح بها لكلّ أحد وإن كان أمسّ الناس إليها من الرجال والنساء، وقد تحدث فيها ضعف، ومن ذلك سقطت عنها في هذه الأيّام الصلاة والصوم، وحرم عليها اللبث في المساجد، وغير ذلك من الأحكام المذكورة في كتب الفقه، حتّى حين حاضت صارت ناقصة الإيمان كما نبّه عليه الإمام عليّ عليه السلام بقوله : (فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ)[14].
فعل هذا: إنّ الله عزّ وجلّ تفضّل على سيّدة النساء فاطمة البتول العذراء سلام الله عليها بالولادة الكاملة من دون رؤية هذه القذارة، وهذا فضيلة سامية لها، وتطهير زائد في ذاتها سلام الله عليها، وإنّ الله عزّ وجلّ لا يرضى أن تتلوث سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين بهذه القذارة أو غيرها ظاهرة كانت أو باطنة، كما قال في حقّها : ﴿ إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ﴾[15]، وعن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله: (يَا حُمَيْرَاءُ إِنَّ فَاطِمَةَ لَيْسَتْ كَنِسَاءِ اَلْآدَمِيِّينَ وَلاَ تَعْتَلُّ كَمَا يَعْتَلِلْنَ يَعْنِي بِهِ اَلْحَيْضَ)[16].
[1] سورة النحل، الآية: 89.
[2] وسائل الشیعة، ج 27، ص140.
[3] مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 330.
[4] تهذيب الأحكام / الطوسي، ج 7، ص 475، ح116.
[5] مسند فاطمة الزهراء عليها السلام / السيوطي، ص: 50.
[6] كشف الغمة، ج 1، ص: 463.
[7] ذخائر العقبى، ص: 44.
[8] النهاية: مادة بتل.
[9] مجمع البحرين: مادة بتل.
[10] النهاية، ج 1، ص: 94.
[11] لسان العرب، ج 11، ص: 43.
[12] مناقب ابن شهرآشوب، ج 3، ص 330.
[13] الکافي، ج1، ص183.
[14] نهج البلاغة: خطبة 78.
[15] سورة الأحزاب، الآية: 31.
[16] بحار الأنوار، ج 37، ص64.
(نعم) بهذا القول سوف يجيبنا القرآن الكريم فثمة هناك شواهد واضحة البرهان جلية البيان ، صريحة في معناها متقدة في مغزاها أثبتت من خلال واقعيتها مدى صحة مدركتيها فهذه النار التي جعلت لإبراهيم عليه السلام برداً وسلاماً وخالفت قوانين الطبيعة في سلوكها وخاصيتها المحرقة وهذه شجرة من يقطين أنبتت ليونس عليه السلام بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، مع العلم بأن حبة اليقطين تحتاج إلى مدة غير قصيرة، حتى تثبت وتورق وتستر بورقها جسم إنسان أو غير إنسان، وهكذا نجد في شذوذ الكثير من المسائل عن القوانين والسنن الإلهية، فهذه مريم مخالفة في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب مسألة قانون التناسل البشري الطبيعي، وكذلك هناك طوائف عديدة وأمثلة واضحة تدل دلالة صريحة على أنه هناك الكثير من القوانين قد خرقت بقدرة الله تعالى باعتباره هو مسبب الأسباب الطبيعي بل هو الجاعل لهذه السنن القدرة بهذه الكيفية كل هذا المقال الذي قلنا به وبيّنا الشيء اليسير منه لكي نرجع إلى قضية فاطمة سلام الله عليها في كونها بتول منقطعة عن الحيض، فهل هذا اخلاف وتغير في قانون الطبيعة أم هي كرامة من الله تعالى لها ؟
وهل لهذه مسألة وجه يخرج عنه المتحير فكره إلى الصحيح من البيان؟ نعم نقول في فاطمة عليها السلام كانت بتول بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى وسبق أن قلنا أن هذه المسألة لم تكم الفريدة من نوعها، بل توجد شواهد قرآنية عليها ومن خلال أبسط استقراء للقرآن الكريم نرى هذا الشيء الواضح.
أما بيان البتول والوقوف عليها، وبيان الوجه في ذلك فهذا ما سيظهر لنا من خلال مراجعة كتب اللغة والحديث والتاريخ لنرى كيف كانت فاطمة سلام الله عليها بتول بكل ما تحمل هذه الكلمة من مدلولات واضحة.
البتل في اللغة: القطع، وهو يرادف الفطم من حيث المعنى، وقد عرفت الزهراء عليها السلام بهذا الاسم لتفرّدها عن سائر نساء العالمين بخصائص تميزت بها، كما تدل عليه الأحاديث وأقوال أهل اللغة.
أما في الأحاديث: فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (إنّ النبي صلى الله عليه وآله سُئِلَ ما البتول؟ فإنّا سمعناك يا رسول الله تقول: إنّ مريم بتول وفاطمة بتول، فقال صلى الله عليه وآله: البتول التي لم تر حمرةً قط ـ أي لم تحض ـ فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء)[3]، وتنزيهها عن الحيض باعتباره أذىً يشير إلى علوّ مقامها وإلى خصوصية تفردت بها عن سواها، لأنّها من أهل البيت الذين طهرهم ربهم من الرجس تطهيراً، وهو أمر غير مستبعد لكثرة المؤيدات له في الأحاديث والآثار.
منها: ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (حرّم الله النساء على علي عليه السلام ما دامت فاطمة عليها السلام حية قال: قلت: كيف؟ قال: لأنّها طاهرة لا تحيض)[4].
ومنها: ما أخرجه النسائي والخطيب والمحب الطبري بالإسناد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إنّ ابنتي فاطمة حوراء آدمية، لم تحض ولم تطمث)[5].
ومنها: ما رواه ابن المغازلي وغيره بالإسناد عن أسماء بنت عميس، قالت: شهدتُ فاطمة عليها السلام وقد ولدت بعض ولدها فلم يُرَ لها دم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: (يا أسماء، إنّ فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية)[6]، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وآله قال لها: (أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرى لها دم في طمث ولا ولادة)[7].
وأمّا أهل اللغة: فقد أضافوا عدة دلالات أخرى تحكي عن منزلة الزهراء عليها السلام التي لا يدانيها أحد من نساء الاُمّة، وفيما يلي بعضها.
وقال ابن الأثير: وامرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم: وبها سمّيت مريم أمّ المسيح عليهما السلام. وسمّيت فاطمة «البتول» لانقطاعها من نساء زمانها فضلاً وديناً وحسباً. وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى.[8]
وقال الطريحي : والبتول فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، قيل : سمّيت بذلك لانقطاعها إلى الله وعن نساء زمانها فضلاً، وعن نساء الامّة فضلاً وحسباً وديناً.[9]
قال الزبيدي: روي عن الزمخشري، أنّه قال: لقبت فاطمة بنت سيد المرسلين عليها السلام بالبتول تشبيهاً بمريم عليها السلام في المنزلة عند الله تعالى.
وقال ثعلب: لانقطاعها عن نساء زمانها وعن نساء الاُمّة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً، وهي سيدة نساء العالمين، وأُمّ أولاده صلى الله عليه وآله ورضي الله عنها وعنهم.
وقال الجزري بنحو قول ثعلب، وأضاف في آخره: وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلىٰ الله.[10]
وقال به أيضاً أحمد بن يحيى على ما نقله عنه ابن منظور، وأضاف ابن منظور: امرأة متبتلة الخلق: أي منقطعة الخلق عن النساء، لها عليهنّ فضل.
وقيل: التامة الخلق. وقيل: تبتيل خلقها: انفراد كلّ شيء منها بحسنه، لا يتكل بعضه على بعض.[11]
وعن الهروي في (الغريبين)، قال: سميت فاطمة عليها السلام بتولاً؛ لأنّها بتلت عن النظير.[12]
يظهر من التأمل في كلمات أصحاب الصحاح من أهل اللغة والبيان أنهم حملوا معنى الانقطاع بالنسبة للفظ البتول محملاً جيداً وفسروه بأنه انقطاع عن نساء زمان فاطمة سلام الله عليها من ناحية العفة والفضل والدين والحسب، وكذلك حملوه على الزهد عن الدنيا وانقطاعها سلام الله عليها عن الدنيا وهذه المعاني التي حملوا اسم البتول عليها وان كانت جيدة ومفيدة وواضح من خلال السليقة العربية ومفاهيمها إلا واقع الحال والمقام لا يساعد على هذا الحمل ولا يظهر فيه نتيجة وجود مرجحات وشواهد وقرائن واضحة لمن أراد استقصاءها في معنى اسم البتول، وخير شاهد على هذه القرائن هو ما قدمناه من الروايات الواردة في المقام من الخاصة والعامة، فهي أفضل دليل على أن المراد من كلمة واسم البتول هو ما أطلقت وبينت الروايات الشريفة، فالمقول الذي نقول به ونرجحه على كلمات أهل اللغة في معنى البتول في انه هذا الاسم ظاهر في التي لم تر حمرة قط ولم تحض أبداً وهو الذي يساعد عليه المقام فتأمل في هذه الروايات المباركة.
أما ما يظهر من كلمات بعض الذين وقفوا موقف المتحير ولا يجد أي طريق لحل هذه المعضلة والتي حسب آرائهم انها مخالفة لنظام العلل والمعاليل والأسباب، وان قصية أن فاطمة سلام الله عليها لا ترى الدم ولا الحيض وأمثال هذه القذارة، فحسب قولهم انها مخالفة لحديث الإمام الصادق (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) حيث ورد عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَنَّهُ قَالَ: (أَبَى اَللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ اَلْأَشْيَاءَ إِلاَّ بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وَجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحاً وَجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْماً وَجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَاباً نَاطِقاً عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ذَاكَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَنَحْنُ)[13]، وذلك من جهة خروجها عن هذا النظام الأكمل في الطبيعة فنقول : قد تبين الحال من خلال مراجعة القرآن الكريم وان الكثير من الشواهد القرآنية تدل دلالة قطعية على أن الله تعالى قد تصرف في ملكه وقهر الكثير من القواعد المطردة في الطبيعة الكونية «ذلت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب» «ويا مسبب الأسباب من غير سبب» .
وقد علق المحقق الهمداني (في كتابه فاطمة بهجة قلب المصطفى: ص 160 ـ 161) على هذه المسألة ببيان واضح ذو فائدة جلية ومضامين عالية وغير مخالفة لما هو الأساس من هذه المسألة حيث قال:
توجد في القرآن الكريم طائفة من القصص والوقائع والحوادث لا يساعد عليها جريان العادة المشهورة في عالم الطبيعة على نظام العلّة والمعلول المعهودة، كحمل مريم سلام الله عليها، فإنّها مع أنّه لم تمسسها بشر حملت بولدها عيسى عليه السلام ، وكحمل سارة بإسحاق عليه السلام مع أنّها كانت عجوزاً، وكحمل امرأة زكريّا بيحيى مع أنّها كانت عاقراً، وأمثال ذلك في المعجزات وخوارق العادات التي يثبتها القرآن لعدّة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، فإنّ كلّ ذلك امور خارقة للعادة.
فبعد هذا البيان يظهر للقارئ الكريم بطلان ما يقال: إنّ الحيض في النساء من لوازم الخلقة، فخلوّ المرأة عنه نقص، وإنّ العادة الشهريّة علامة وسبب للولادة؛ لأنّا نقول: ليس الخروج من مضايق الطبيعة نقصاً بل ربما يكون كرامة يا لها من كرامة! على أنّ الحيض بنفسه قذارة ورجس، كما قال الله عزّ وجلّ ﴿قل هو أذىً﴾ أي قذارة يتأذّى منها، فإنّ المرأة حين حدثت لها العادة الشهريّة تنفعل وتخجل وتنكسر ولا ترضى أن تصرّح بها لكلّ أحد وإن كان أمسّ الناس إليها من الرجال والنساء، وقد تحدث فيها ضعف، ومن ذلك سقطت عنها في هذه الأيّام الصلاة والصوم، وحرم عليها اللبث في المساجد، وغير ذلك من الأحكام المذكورة في كتب الفقه، حتّى حين حاضت صارت ناقصة الإيمان كما نبّه عليه الإمام عليّ عليه السلام بقوله : (فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ)[14].
فعل هذا: إنّ الله عزّ وجلّ تفضّل على سيّدة النساء فاطمة البتول العذراء سلام الله عليها بالولادة الكاملة من دون رؤية هذه القذارة، وهذا فضيلة سامية لها، وتطهير زائد في ذاتها سلام الله عليها، وإنّ الله عزّ وجلّ لا يرضى أن تتلوث سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين بهذه القذارة أو غيرها ظاهرة كانت أو باطنة، كما قال في حقّها : ﴿ إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ﴾[15]، وعن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله: (يَا حُمَيْرَاءُ إِنَّ فَاطِمَةَ لَيْسَتْ كَنِسَاءِ اَلْآدَمِيِّينَ وَلاَ تَعْتَلُّ كَمَا يَعْتَلِلْنَ يَعْنِي بِهِ اَلْحَيْضَ)[16].
[1] سورة النحل، الآية: 89.
[2] وسائل الشیعة، ج 27، ص140.
[3] مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 330.
[4] تهذيب الأحكام / الطوسي، ج 7، ص 475، ح116.
[5] مسند فاطمة الزهراء عليها السلام / السيوطي، ص: 50.
[6] كشف الغمة، ج 1، ص: 463.
[7] ذخائر العقبى، ص: 44.
[8] النهاية: مادة بتل.
[9] مجمع البحرين: مادة بتل.
[10] النهاية، ج 1، ص: 94.
[11] لسان العرب، ج 11، ص: 43.
[12] مناقب ابن شهرآشوب، ج 3، ص 330.
[13] الکافي، ج1، ص183.
[14] نهج البلاغة: خطبة 78.
[15] سورة الأحزاب، الآية: 31.
[16] بحار الأنوار، ج 37، ص64.
تعليق