بُعث النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة في يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة النبوية المباركة بثلاثة عشر عاما، وبعد عام الفيل بأربعين عاماً، وبعد الميلاد بـ 610 سنة.
واقترنت بعثته المباركة بنزول الوحي (الوحي في اللّغة: هو الإعلام السريع الخفي) عليه وهو الملك المقرب جبرائيل عليه السلام يبشره بأن الله قد اختاره نبياً، كما واقترنت بعثته المباركة بنزول آيات من القرآن الكريم عليه.
ويُسمى هذا اليوم المبارك بيوم المبعث، وهو يوم شريف ومبارك ومن الأعياد العظيمة، وينبغي للمسلمين جميعاً تعظيم هذا اليوم والاعتزاز به.
إن يوم المبعث النبوي الشريف يوم عظيم في تاريخ البشرية، إذ بُعث فيه النبي (صلی الله علیه وآله) برسالة الإسلام، وبُعثت ببعثته المباركة حضارة جديدة في التاريخ، وحياة جديدة، وثقافة جديدة، ومجتمع جديد، وأمة جديدة.
وفي يوم المبعث النبوي الشريف نستذكر بدء النبوة، وتبليغ الرسالة، وولادة الإسلام، وانطلاق مسيرة بناء الشخصية المسلمة، وتغيير ثقافة المجتمع وفق مبادئ وقيم وأخلاق الإسلام، وتغيير حركة التاريخ كله.
وبعد أن كان المجتمع قبل البعثة يعاني من أمراض الجهل والتخلف والخرافة والأساطير والأوهام، بعث النبي (صلی الله علیه وآله) بالرسالة، معلناً أنه النبي المرسل من قبل الله تعالى للناس، ليبدأ العمل على تزكية النفوس وتهذيبها، وتعليم الناس وتربيتها، فجاء مبعوثاً بالقرآن الكريم، ومزكياً لأنفسهم، ومهذباً لأخلاقهم، وحاملاً مشعل العلم والمعرفة لتنمية عقولهم، وقد أشار القرآن الحكيم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾[1]، فبتزكية النفوس، ونشر العلم والمعرفة تتقدم الأمم، وتتطور المجتمعات الإنسانية.
وكان النبي (صلی الله علیه وآله) قبل البعثة ونزول الوحي عليه يتعبد في غار حراء -وهو كهف صغير في أعلى جبل النور[2]- ويقع في الشمال الشرقي من مكة المكرمة على يسار الذاهب إلى عرفات، فكان (صلی الله علیه وآله) يخلو بنفسه للعبادة والتفكر والتأمل، وينقطع عن عالم المادَّة والماديات، ويتجه بكل مشاعره وكيانه نحو الله تعالى، وقد روي عنه (صلی الله علیه وآله) أنه قال: (إنِّي كُنتُ أوَّلَ مَن آمَنَ بِرَبِّي، وأوَّلَ مَن أجابَ حَيثُ أخَذَ اللّهُ ميثاقَ النَّبِيِّينَ وأشهَدَهُم عَلى أنفُسِهِم: ألَستُ بِرَبِّكُم؟ فَكُنتُ أنا أوَّلَ نَبيٍّ قالَ: بَلى)[3].
وعندما بلغ النبي (صلی الله علیه وآله) الأربعين من عمره الشريف، أتاه جبرائيل في غار حراء، ليبلغه بأنه المبعوث إلى البشرية جمعاء برسالة الإسلام، فألقى إليه كلمة الوحي، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الإنسانية، وهو القائل (صلی الله علیه وآله) : «إنَّما بُعِثتُ فاتِحاً وخاتِماً»[4].
وقد اختاره الله تعالى واصطفاه من شجرة الأنبِياء كما أشار الإمام عليّ (علیه السلام) إلى ذلك، - وهو يصف النَّبيِّ (صلی الله علیه وآله) - قائلاً: (اختارَهُ مِن شَجَرَةِ الأنبِياءِ، ومِشكاةِ الضِّياءِ، وذُؤابَةِ العَلياءِ، وسُرَّةِ البَطحاءِ، ومَصابيحِ الظُّلمَةِ، ويَنابيعِ الحِكمَةِ)[5]
وكان أوَّل وحي قرآني نزل بها جبرائيل على محمد (صلی الله علیه وآله) الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾[6] ، وهذا الرأي هو المشهور بين المفسّرين[7]، بناء على جملة من الروايات، ومنها ما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (أوّل ما نزل على رسول اللَّه صلی الله علیه وآله ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾[8]، وآخره: ﴿ ... إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ... ﴾[9])[10]، وهناك قول آخر بأن أول سورة نزلت على النبي (صلی الله علیه وآله) هي سورة المدثر، وقول ثالث بأنها سورة الفاتحة، لكن الرأي الأول هو الأشهر والأرجح.
وحمل رسول الله (صلی الله علیه وآله) الدعوة إلى الله تعالى، ودعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وهي الدعوة التي نادى بها كل الأنبياء والرسل، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ... ﴾[11] .
وروي عن الإمام عليّ علیه السلام: (فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله بِالحَقِّ؛ لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ الأوثانِ إلى عِبادَتِهِ، ومِن طاعَةِ الشَّيطانِ إلى طاعَتِهِ، بِقُرآنٍ قَد بَيَّنَهُ وأحكَمَهُ، لِيَعلَمَ العِبادُ رَبَّهُم إذ جَهِلوهُ، وَليُقِرُّوا بِهِ بَعدَ إذ جَحَدوهُ، وَليُثبِتوهُ بَعدَ إذ أنكَروهُ)[12].
وروي عنه علیه السلام أنه قال: (إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله بِالحَقِّ؛ لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ عِبادِهِ إلى عِبادَتِهِ، ومِن عُهودِ عِبادِهِ إلى عُهودِهِ، ومِن طاعَةِ عِبادِهِ إلى طاعَتِهِ، ومِن وَلايَةِ عِبادِهِ إلى وَلايَتِهِ)[13] .
خلق الله الإنسان لكي يعيش السعادة في الحياة الدنيا من خلال الالتزام بشريعة الله عزوجل، وليكون ذلك المدخل الصحيح لحياة الخلود يوم القيامة في جوار رحمة الله ومغفرته وفيضه اللامتناهي.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية بعث الله الأنبياء والرسل بشكل متوال ومتعاقب حتى لا تضيع الغاية، ويضيع تبعاً لذلك الصراط المستقيم الذي ينبغي على الإنسان أن يسير فيه في الحياة الدنيا.
وكان آخر من بعثه الله عزوجل هو خاتم الأنبياء أبو القاسم محمد (صلى الله عليه وآله) ليكتمل به عقد الأنبياء من جهة، ولتكتمل ببعثته الشريعة الإلهية المحتوية على كل ما تحتاجه حياة البشر إلى يوم القيامة.
وقد استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يجعل من شريعة الله الخاتمة "الإسلام" كما جاء في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... ﴾[14]، هي الأساس الأول والمصدر الرئيس لكل الأحكام والنظم والقوانين التي تنظم حياة الناس طبق موازين الحق والعدل.
ولا شك أن النجاح الكبير الذي حققه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته استمر بعد رحيله إلى ربه راضياً مرضياً وتوسعت دولة الإسلام ودخلت شعوب كثيرة في هذا الدين بعد أن عانت الضياع الفكري والعقائدي من جهة، وعاشت حياة مليئة بالظلم والجور والاضطهاد من جهة أخرى.
ولا يخفى على المتأمل أن السبب في كل النجاحات المتحققة زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وبعده هي الروحية العالية للالتزام بالإسلام قولاً وعملاً وسلوكاً، مضافاً إلى الخواء والفراغ الروحيين الذين كانت تعيشهما الشعوب في ذلك الزمن، فكان المسلمون ينتصرون في الغالب فكرياً أو عسكرياً على أغلب من يواجههم لوضوح العقيدة والأهداف والمناهج، بينما لم يكن لدى الآخرين ما يتمسكون به ليعينهم على الدفاع عن أنماط الحياة التي كانوا يعيشونها.
ولذا نجد أن القرآن الكريم يشرح الحالة التي كان عليها الناس زمن النبي (صلى الله عليه وآله) ويبين السبب لبعثته الشريفة، فتقول الآية: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾[15]، ثم تأتي آية أخرى لتوضح أن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) هي للشهادة والتبشير والإنذار، وللدعوة إلى الله ولإنارة الطريق للبشرية التائهة الباحثة عن الحق والعدل وإقامتهما في الأرض، والآية هي: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾[16].
[1] سورة الجمعة، الآية: 2.
[2] (يقع على ارتفاع 634 متراً، ولا يتسع إلا لأربعة أو خمسة أشخاص فقط، يبعد مسافة 4 كم عن المسجد الحرام).
[3] الكافي: ج 1، ص 441، ح 6.
[4] كنز العمّال: ج 11 ص 425 ح 31994.
[5] نهج البلاغة: الخطبة 108.
[6] سورة العلق، الآيات، 1-5.
[7] التبيان في تفسير القرآن: ج 10، ص 378.
[8] سورة العلق، الآية: 1.
[9] سورة النصر، من بداية السورة إلى الآية 1.
[10] الكافي: ج 2، ص 628، ح 5.
[11] سورة النحل، الآية: 36.
[12] نهج البلاغة: الخطبة 147.
[13] الكافي: ج 8، ص 386، ح 586.
[14]سورة آل عمران، الآية: 19 .
[15] سورة الجمعة، الآية: 2.
[16] سورة الأحزاب، الآية: 45 - 46.
تعليق