ولاء قاسم العبادي
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفاً الحالة العامة للأمّة التي بُعث النبيّ (صلى الله عليه وآله) إليها: «أرسله على حين فترة من الرُسُل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وأياسٍ من ثمرها...»[1].
في ذلك الوقت الذي كانت فيه الدنيا غارقة في ظلام الجهل، وسماء الجزيرة العربيّة تلفّها سُحُب الجاهليّة السوداء، وفي ذلك المحيط الصاخب بالضلال والانحراف والحروب الدامية، والنهب والسلب، ووأد البنات، وقتل الأولاد، وموت الضمير وانحلال الأخلاق.
في مثل هذا الزمن بالذات أطلّت شمسُ السعادة، وأضاءت محيطَ الجزيرة العربيّة، وأشرقت الدنيا بأنوار الرحمة الإلهيّة، فكانت البعثةُ النبويّة الشريفة التي تجسّدت فيها كلّ معاني رحمة الله تعالى بعباده.
فقد بعث اللهُ سبحانه نبيّه الأكرم محمداً (صلى الله عليه وآله) رحمةً للعالمين جميعاً، وليس لأهل مكّة أو الجزيرة العربيّة أو المسلمين؛ وذلك بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.[2]
وقد خصّه الله تعالى بهذه الكرامة ليكون التجسيد الحقيقيّ لهذه الرحمة التي تظهر بأشكال وعناوين مختلفة، ويكفي النبيّ (صلى الله عليه وآله) منها أنّه كان عنوانَ الأمانِ لأهل الأرض من عذاب الله تعالى عند أيّ معصية وذنبٍ يرتكبونه، ويكون مستوجباً للقضاء على النّاس، كما حصل في تاريخ الأمم التي عصت الأنبياء والرُسُل (عليهم السلام) من أمثال عادٍ وثمود وغيرهم.
يقول الإمام عليّ (عليه السلام) مبيّناً هذه المنقبة في نهج البلاغة:«كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفع أحدُهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمانُ الذي رُفع فهو رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)، وأمّا الأمانُ الباقي فالاستغفارُ؛ ثمّ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾» [3]
إرهاصات البعثة النبويّة:
بعث اللهُ تعالى النبيَّ (صلى الله عليه وآله) بعد عام الفيل بأربعين عاماً، أي حينما بلغ الأربعين من عمره الشريف، وكان قبل ذلك يسمع الصوت ولا يرى الشخص، حتّى تراءى له جبرائيل (عليه السلام) وهو في سنّ الأربعين، وهيّأ الله تعالى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لتلقّي الوحي القرآنيّ:﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ .[4]
ثمّ بدأ نزول القرآن عليه تدريجيّاً في شهر رمضان المبارك، وقد نزلت عليه (صلى الله عليه وآله) حقائق القرآن ومعانيه دفعة واحدة، ثمّ صار ينزل عليه تدريجيّاً، سورةً سورةً، ثمّ صارت تتوالى الأحداث فينزل جبرائيل عليه بالآيات المرتبطة بها في السور التي كانت قد نزلت دفعة واحدة قبل ذلك.
ومن المعلوم أنّ بدء الوحي كان في غار حراء، وكان (صلى الله عليه وآله) يتعبّد في ذلك الغار، وقد ذكر المؤرّخون وكتّاب السيرة الكثير من القضايا المرتبطة بطريقة نزول الوحي، ومنها أنّ جبرائيل عصره ثلاث مرّات، وغير ذلك من خرافات، وأنّه (صلى الله عليه وآله) رجع عندما نزل عليه الوحي، خائفاً يرتجف وأنّ خديجة (عليها السلام) قد أخذته إلى ورقة بن نوفل النصرانيّ، فأخبره بأنّ ما يراه هو الملاك.
ولكن الواقع كان غير ذلك تماماً، إذ إنّ النصوص التاريخيّة تشير إلى أنّه (صلى الله عليه وآله) بعد نزول الوحي عليه رجع إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به، مطمئناً إلى المهمّة التي أوكلها الله بها.
الدعوة إلى الله تعالى:
يمثّل يوم المبعث النبويّ ونزول الوحي بداية التاريخ الإسلاميّ الذي بدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل نزول الوحي من خلال عبادته لله سبحانه في غار حراء، حيث كان يتعهّده ربّه الأعلى بالعناية والإعداد منذ صغر سنه، وحينما تلقّى الرسول (صلى الله عليه وآله) بيان التكليف الإلهيّ بحمل الرسالة كان الإمام علي (عليه السلام) أوّل رجلٍ استقبل دعوة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وصدّقها وآمن بها، فضلاً عن كونه مسلماً بالفطرة.
وأمر الله تعالى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما يُؤمَر،ونزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْعَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ،وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾[5]
ولم يكن ذلك إلّا بداية للمشوار الطويل الذي سلكه النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع هذه الأمّة التي جاء إليها بخير الدنيا والآخرة، وجميع معاني الرحمة الإلهيّة، والخير الوافر فيما لو اتّبعته واقتدت به، وتأسّت بأقواله وأفعاله وأوامره، ولكنّها الأمّة التي قاتلته وعذَّبته وشرّدته ورفضت كلّ هذه المعاني والقيم المتمثّلة ببعثته الشريفة.
[1] -(نهج البلاغة: الخطبة 89).
[2] - (الأنبياء: 107).
[3] - (بحار الأنوار٩٠/٢٨٦ )الاية (الأنفال: 33).
[4] - (المزمل: 5).
[5] -(الشعراء: 214-216).