مداركُ الأحكامِ في شرحِ شرائعِ الإسلام
السيد محمد بن علي بن أبي الحسن الموسوي العاملي
الجزء الأول
صديقي المتلقي العزيز: لايخفي عليك أن الإمامَ الصادق (ع) قد أسّس مدرسته الكبرى والتي تخرج منها أربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والمعرفة، وهذا دليل بيّن على قيمة مدرسة أهل البيت (ع)، وعمق الامتداد والتأثير الذي مارسته هذه المدرسة على مختلف المذاهب والعلوم الاسلامية؛ وقد اهتم أهل البيت (ع) بعلم الفقه، لأنه القانون الشرعي المنجي لشتى المعضلات، وقد تميّز بالحيوية الدائمة والعطاء الخصب والنمو الذاتي، مما لانجد له نظيراً في المدارس الأخريات التي تجمّد فقهها عند مقطع زمني محدد.
صديقي الكتاب العزيز: إذن هناك جذر رصين، ولكنه يحتاج الى مقومات تبقيه؟
صديقي المتلقي الرائع: ابتدأت مسيرة الفقه الشيعي بعد الغيبة بمدرستين قيّمتين سارتا بالفقه خطوات موفقة، حتى جاء من بعدهم الشيخ المفيد (قدس سره) والذي له فضل كبير في حفظ الفقه الشيعي، حيث محّص آراء المعتمدين على العقل والكتب، وخرج لنا بمجموعة جامعة بين العقل والحديث، وتبلور من هذه المدرسة (الشيخ الطوسي) الذي يعد مجددا للمذهب، متبحّرا في فنون المعرفة، وملمّاً بفقه المذاهب الإسلامية، عارفاً به، ويشهد بذلك كتابه القيّم مسائل الخلاف، حتى حضور (ابن ادريس) الذي تجرأ لمناقشة آراء الشيخ، واستطاع أن يحرّك الأجواء العلمية حينذاك... وكان الفقه الشيعي يُدرّس مع فقه بقية المذاهب، وهناك اتجاه يبتعد عن المسائل الخلافية؛ ويخوض في الأبحاث الفقهية عند العامة، وهناك من خصّص كتابه للفقه الشيعي، وبين معهد بغداد العلمي وظهور الجامعة في النجف الأشرف، ومعهد الحلة بعلمائه ومفكريه وفقهائه... ظهر اسم معهد علمي آخر؛ يضاهي هذه المعاهد وقتذاك، هو جبل بني عامل.
عزيزي الكتاب الموقر: أرى أن جبل بني عامل أخذ صيتاً مهماً في العالم الاسلامي من حيث كثرة العلماء، هل ثمة سبب يوضح معالم القضية؟
عزيزي المتلقي الكريم: لجبل بني عامل دور مهم في الولاء لأهل البيت (ع) فقد بذر بذرة الولاء الطاهرة في هذه التربة الخصبة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، لما نفي الى الشام في عهد عثمان؛ نمت البذرة الموالية مع القبائل التي دخلت مع جيوش الفتح، واستقرت في جبل عامل، ومنهم الهمدانيون وخزاعة التي منها الحرافشة. وكان الجبل بسبب موقعه الجغرافي يمثل نقطة الوصل بين بلاد الشيعة في العراق وايران، وبين مصر والشام... وكان لنوابغ الجبل الأثر الكبير في الدراسات الاسلامية خاصة في البلاد المجاورة للجبل. وهناك مدرستان فقهيتان؛ مدرسة الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي، والثاني المحقق العراقي... والمعروف أن البيئة لها تأثير عاطفي.
القول الأول - الشيخ الحر العاملي: إن علماء الشيعة من جبل عامل؛ يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الأقطار؛ مع أن بلادَهم صغيرة.
فتح الشهيد عينيه ليحضر مجالس العلم والأدب، ثم جاب أرض الله الواسعة؛ ليعود بنمير العلم الى بلاده... وكان والده (جمال الدين مكي) يحثه ويشجعه على المضي في دراسته، فطاف في مكة والمدينة ومصر وبيت المقدس ودمشق وبغداد... يقول: إني أروي لأربعين شيخاً من علمائهم، وهذا يعني انه جمع علوم الشيعة والسنة والحديث والفقه، وبقية العلوم ـ أثر تدريسه لكل المذاهب ـ فيعتبر هو ثمرة الحلة، ومؤسس مدرسة مهمة في جبل عامل. من اهتمامات هذه المدرسة هو البحث في أقوال الفقه الشيعي فقط، والتبحّر في فحصها ونقدها، وكان نتاجها الذكرى، واللمعة، والدروس الشرعية والبيان، وشرح نكت الارشاد (غاية المراد)، وبذلك تمكن الشهيد (رحمه الله) من وضع اللبنة الأساسية لمدرسته في جبل عامل.