مرتضى علي الحلي
تمهيد:معنى الدين لغة:
الدين لغةً: الطاعة، يقال دان له يدين ديناً(١).
وأيضاً وردت هذه المادة (الدال والياء والنون) بمعنى - المجازاة، كما في قولهم: كما تدين تدان، معناها كما تجازي تجازى، أي تجازى بعملك وبحسب ما عملت(٢).
وفي القرآن الكريم ورد يوم الدين بمعنى يوم الجزاء، وكذلك ورد الدين بمعنى الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ (آل عمران: ١٩).
وإن استعمال لفظة (الدين) لغة يناظر وبقدر كبير المعنى الديني في أصوله المشتركة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: ١٣).
فالمقدار والمدلول الديني للفظة الدين المستظهر من مجموع الأديان السماوية واحد في أصوله المشتركة للإنسان جعلاً واعتقاداً وهداية، من الإيمان بالله تعالى وتوحيده وطاعته والغيب وأنبيائه وكتبه والمعاد.
مفهوم الدين اصطلاحاً:
لا يمكن حصر مفهوم الدين بتعريف واحد جامع مانع، وذلك لتعدد دلالاته اللفظية بعدد الجهات التي استهدفها في مختلف مفاصل حياة الإنسان والمجتمع وسوقه إلى الفضائل الأخلاقية والقيمية، بما يحرز معه إعمال الحق والنظام الصالح والعادل، من خلال الاهتداء بهدي الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) والمصلحين والاقتداء بهم.
وما يذكر تعريفاً له في الاصطلاح إنما هو من باب المثال وبيان المصداق، وإلّا فالدين مفهوم كلي قيمي، له حيثيات متعددة ومختلفة، وأغراض جمة.
وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل، حيث قال: (والدين في الاصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح، من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية)(٣).
وكذلك ذكر السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان ما يمكن أن يعرف به الدين (وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا، يتضمن صلاح الدنيا، بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلابد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج)(٤).
وإن الدين في ماهيته الاعتبارية القيمية يتوافر على مقومات ذاتية وغائية، من حيث الجعل والتقنين والدعوة والتطبيق والاتباع والاسترشاد والاهتداء وما شابه.
ومن أهم مقوماته البنيوية أن جاعله وواضعه الله سبحانه وتعالى، وهذا ما أكده القرآن الكريم مراراً وتكراراً في سوره الشريفة، وذلك بإضافة نسبة الدين إلى الله تعالى كما في الآيات التي تصدَّرت البحث.
وقد أقر بذلك علماء الاعتقاد والشريعة، حيث ذكر العلامة محمد تقي الآملي: (إن الدين وضع إلهي يتناول الفروع والأصول، وجامعه هو ما جاء به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم))(٥).
وهذا الجعل الإلهي القيّم للدين إنما تنزل للناس من خلال الوحي الأمين المعصوم، وهو ما يعزز الوثوق به والتيقن منه، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: ١٩٢-١٩٥).
وقد جعل الله سبحانه للدين أيضاً كتاباً يحفظه اعتقاداً وشرعة ومنهاجاً وهداية على أيدي الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) للناس كافة ما بقيت الحياة وبقي التكليف، قال تعالى: ﴿رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتابُ وَلاَ الإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ (الشورى: ٥٢-٥٣)، ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة: ٤٨).
إن معرفة ماهية الدين الحق والمستقيم تتطلب من الإنسان المؤمن معرفة إمام زمانه - وفي وقتنا هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - والإيمان به والتصديق له، ولهذا فإنه لا يؤخذ الدين من أي أحد كان، كيف ما يشاء، ودون ضوابط ومعايير تؤمّن له التلقي الصحيح والسليم للعقائد أصولاً، والأحكام والتكاليف فروعاً، والطريق الصالح الموصل للمطلوب منهاجاً، إتماماً للحجة الإلهية تنجيزاً وتعذيراً، وإلى هذا المعنى القويم أشارت وأرشدت الروايات المعتبرة، عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله، الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، قال: «يهدي إلى الإمام»(٦).
وفي رواية أخرى طويلة نذكر بعضاً منها محل الشاهد والغرض، (عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام)، في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (عليهم السلام)، وصفاتهم، فقال: إن الله تعالى أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح لهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من أُمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، واجب حق إمامه وجد حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، إن الله تعالى نصب الإمام علماً لخلقه، وجعله حجة على أهل طاعته، ألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبار، يمد بسبب إلى السماء، لا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند الله إلّا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله الأعمال للعباد إلّا بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من مشكلات الدجى، ومعميات السنن، ومشتبهات الفتن، فلم يزل الله يختارهم لخلقة من ولد الحسين (عليه السلام)، من عقب كل إمام، فيصطفيهم كذلك ويجتبيهم، ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم لنفسه، كلما مضى منهم إمام نصب (عزَّ وجلَّ) لخلقه إماماً علماً بيناً، وهادياً منيراً، وإماماً قيماً، وحجة عالماً، أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه يدين بهديهم العباد، وتستهل بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد)(٧).
فالدين مفهوم واحد في ماهيته، جعلاً وغرضاً عند جميع الأديان السماوية، وإن تعدد الأنبياء، واختلفت شرائعهم لكل أُمة في وقتها، وله ما يعرف به، من نبي أو وصي أو إمام معصوم لكل قوم، وفي كل زمان.
تعليق