عمل البلاط العباسي على إبعاد الإمام العسكري(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)عن أصحابه، والتفريق بينهم من خلال الترغيب والترهيب والبطش.. فسعى بكل السبل إلى إغداق المال الوفير على المترددين والمرعوبين وإغرائهم بالعيش الرغيد.. وبالمقابل وقف موقفاً صارماً من أصحاب الإمام وقواعده المساندة بالتجويع والسجن والقتل..
وإزاء ذلك كان الإمام يتحرك بيقظة وحذر وجدية من أجل أن يضمن سلامة أصحابه.. فكان يشرف بنفسه على قواعده الشعبية لغرض حمايتها والحفاظ على وجودها وتنمية وعيها، ومدها بكل أساليب الصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.. ويقف موقف الساعد والناصح الأمين والمنبه والمعين، يعينهم على نوائب الدهر ومصائبه اقتصادياً واجتماعياً جراء ما يلاقونه من معاملة قاسية..
وكان يحث أصحابه على العمل بهمة وسرية تامة، ويحذرهم من التمادي في إظهار العداء.. وعندما يستشعر الخطر يأمرهم بتكثيف العمل السري وكتمان الأسرار انطلاقاً من قول الرسول (صَلَى اَللَّهِ عَلَيْهِ وآلهِ)(اقضوا حوائجكم بالكتمان) أو يأمرهم بالكف عن النشاط مؤقتاً حين يكون مصدر خطر عليهم ويحمل لهم بوادر سوء.. أو عندما يكون أحدهم مراقباً من قبل جواسيس البلاط.. وينبههم من الأخطاء ويحذرهم خشية الوقوع في أحابيل السلطة وشراكها.. فقد كتب محذراً إلى {محمد بن علي السمري} وهو من خاصة أصحابه وأحد نواب الحجة المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غيبته الصغرى(فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة) (1).
ولم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات.. وقد اعتقل ذات مرة جماعة من أصحابه فبعث إليهم الإمام أحد أعوانه ليحذرهم من أحد المعتقلين.. وكان جاسوساً دس بينهم من قبل صاحب الشرطة {صالح بن وصيف} أخبرهم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يحذروا واحداً في الحبس يدّعي أنه علوي، وهو ليس منهم. وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه. فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) (2).
وكان الإمام يمد أصحابه بالمال لتحسين أحوالهم المعيشية ويساعدهم لتطوير مصالحهم المادية العامة. ويوزع عليهم وعلى المحتاجين من الفقراء والمساكين الأموال الكثيرة التي تأتيه من الموالين لآل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومحبيهم، بطرق شتى وأساليب متنوعة عن طريق وكلائه المنتشرين في المناطق الإسلامية..
ولقد حرص الإمام على إخفاء أمر وصول الأموال وسبل توزيعها سراً، وبعيداً عن أنظار ومسامع السلطة.. وكان ذلك وحده دليلاً على مدى يقظته وعلى الدرجة العالية من الحذر التي يتبعها، حتى عدت معجزة من معجزاته... (كيف استطاع الإمام وهو المضطهد المراقب أن يستلم الأموال ويصرفها طبقاً للمصالح التي يراها دون أن تعرف الدولة شيئاً عن نشاطه هذا، بل تقف تجاهه مكتوفة الأيدي عاجزة عن كشفه، بالرغم من بذل أقصى وسعها في ذلك. وما انكشاف بعض هذه الأموال للدولة، إلا نتيجة لتقصير بعض الأطراف في الأخذ بهذا المسلك)(3).
(وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفذوا إلى {عثمان بن سعيد العمري السمان} الذي كان يتاجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه) (4).
ومع الحذر والحيطة السرية التي اتبعها الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقد كان يوصي أصحابه بالتزام الحق وعدم التهاون في الواجب (أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنك من بر وفاجر، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهذا جاء محمد(صَلَى اَللَّهِ عَلَيْهِ وآلهِ)، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسر في ذلك، واتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك) (5).
خلال عمره القصير شهد الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حكم ستة من ملوك بني العباس، ولم يرحمه أحدهم (اعتقل الإمام الحسن العسكري عدة مرات في سجون الظالمين من ملوك بني العباس) (6).
وكاد يفقد حياته في أكثر من مرة.. وأدرك أخيراً أن المعتمد الظالم لن يتركه بخير أمداً طويلاً.. كما لن يترك ولده المهدي(عج) على قيد الحياة إذا ما عرف به أو علم بيوم مولده، الذي حرص الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)على إبقائه سراً.. ففي الجو المشحون بالحقد والضغينة على أئمة أهل البيت كان البلاط العباسي على علم تام بأنه آن الأوان (لبزوغ شمس المهدي) ولكن جهلهم بتاريخ ميلاده الذي أخفاه الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جعلهم يتخبطون في أمرهم..
لقد أصدر المعتمد أوامره لمراقبة الحوامل في بيت الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حياته وعند وفاته، ظناً منه بوجود المهدي جنيناً في رحم إحدى نسائه.. غير أن يقظة الإمام وحذره خيبا مسعى الحاكم..
وبعد ولادة المهدي(عج) في ليلة النصف من شعبان عام (255هـ) في مدينة سامراء واجه الإمام العسكري مهمة شاقة لإثبات وجود ولده تجاه التاريخ وتجاه الأمة الإسلامية وتجاه قواعده ومواليه.. ومن ثم التخطيط لحمايته من أي أذى وسوء.. فلم يعلن عن ولادته (أخفى أمره كلياً) ولم يكشف عنه حتى لأقرب المحيطين به.. وأبعده عن عيون رجال السلطة ليضمن سلامته (حتى إن الخادم في بيت الإمام العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً) (7)، لكنه بالمقابل أطلع أصحابه المقربين جداً على أمر ولده وألزمهم بوجوب الكتمان... فـ(بعد أن تصدق عنه عشرة آلاف رطل خبزاً وعشرة آلاف رطل لحماً وعق عنه بذبح ثلاثمائة شاة، بعثها حية من يومه إلى بني هاشم والشيعة) (8)، بعث إلى الخاصة من أصحابه برسائل يخبرهم فيها بولادة الحجة ويعلمهم بأنه الوصي من بعده ويأمرهم بكتمان ذلك عن كل أحد.. قال محمد بن الحسن بن إسحاق القمي: (لما ولد الخلف الصالح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى جدي أحمد بن إسحاق كتاب بخط يده جاء فيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعند جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته. أحببنا إعلامك ليسرك الله كما سرنا والسلام) (9) وروى عن إبراهيم صاحب الإمام العسكري أنه قال: وجه إلي مولاي أبو محمد بأربعة أكباش وكتب إلي: بسم الله الرحمن الرحيم هذه عن ابني محمد المهدي وكل هنيئاً وأطعم من وجدت من شيعتنا).
ونظراً للظروف القاسية والمعاناة الصعبة التي عاشها الإمام العسكري وفي خضم الحرب غير المعلنة التي شنها المعتمد والحقد المتصاعد ضد الشيعة، كان عليه أن يجاهد لإبقاء شعلة آل البيت متوهجة وضاءة.. والحفاظ على تراث ونهج الرسالة المحمدية.. وتطلب ذلك بالأساس (سلامة ولده). وعندها رأى ضرورة العمل والتبشير بفكرة (المهدي) الثورية ولكن بسرية تامة.. (إن الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله على الأرض ليبدل خوفهم أمناً.. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً)(10)، يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد للغيبة..
ومع معرفته المطلقة أن بني العباس يعتبرون الغيبة تهديداً مباشراً لكيانهم، وخروجاً على سلطانهم، وتمرداً على دولتهم، لذلك فإنهم سيعملون على محاربتها بكل السبل وسيواجهونها بالبطش والإرهاب.. ومع الثقة بأن الأمر ليس سهلاً لإقناع البشر الذين اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب على هذا الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوزها إلى تفكير واسع.. مضى الإمام قدماً لإنجاز المهمة متخطياً كل الصعاب.
ولم يكن المجتمع الذي عاصره الإمام بواقعه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام المهدي(عج) لا مثيل لها في تاريخ الأمة.. لذا تحتم على الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يعمل بحذر ويخطط بدقة متناهية لتنفيذ الفكرة.. فبدأ التحضير والتخطيط لتعويد الناس على ما لم يعرفوه سابقاً، كي يستسيغوه دون استغراب ومضاعفات غير محمودة.
ومع وجود النصوص الكثيرة المتوالية، المتواترة والصحيحة عن النبي (صَلَى اَللَّهِ عَلَيْهِ وآلهِ)، والتي تبشر بالمهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). والتي أوردها مؤلفون معاصرون أو متقدمون لعصر الإمام العسكري(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.. فلقد وجد الإمام صعوبة في إقناع الناس بفكرة حلول زمان الغيبة، وتنفيذها في شخص ولده المهدي...
وتمهيداً لتحقيق الهدف الأسمى عمل الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أولاً على حجب ولده عن أعين الناس مع إظهاره لبعض أصحابه وإصدار تعليماته لهم. (ولعل أوسع إعلان قام به الإمام بين أصحابه عن ولادة ابنه قبيل وفاته بأيام، وكان مجلسه غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه، منهم محمد بن عثمان ومعاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب، يعرض عليهم ابنه ويقول لهم: هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم.. وهو القائم الذي تمد إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً) (11).
وهناك حادثة يستدل بها على وجود الإمام المهدي(عج) وكونه مولود وفي الحياة ،
حادثة أبو الأديان والإمام المهدي(عليه السلام):
حَدَّثَ أَبُو اَلْأَدْيَانِ قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَأَحْمِلُ كُتُبَهُ إِلَى اَلْأَمْصَارِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً وَ قَالَ: اِمْضِ بِهَا إِلَى اَلْمَدَائِنِ فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ اَلْخَامِسَ عَشَرَ وَتَسْمَعُ اَلْوَاعِيَةَ فِي دَارِي وَ تَجِدُنِي عَلَى اَلْمُغْتَسَلِ - قَالَ أَبُو اَلْأَدْيَانِ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ اَلْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي فَقُلْتُ زِدْنِي فَقَالَ: مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ اَلْقَائِمُ بَعْدِي فَقُلْتُ: زِدْنِي فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي اَلْهِمْيَانِ فَهُوَ اَلْقَائِمُ بَعْدِي ثُمَّ مَنَعَتْنِي هَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَمَّا فِي اَلْهِمْيَانِ وَخَرَجْتُ بِالْكُتُبِ إِلَى اَلْمَدَائِنِ وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا وَدَخَلْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ اَلْخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لِي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فَإِذَا أَنَا بِالْوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ وَإِذَا بِهِ عَلَى اَلْمُغْتَسَلِ وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ أَخِيهِ بِبَابِ اَلدَّارِ وَاَلشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يُعَزُّونَهُ وَيُهَنُّونَهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُنْ هَذَا اَلْإِمَامُ فَقَدْ بَطَلَتِ اَلْإِمَامَةُ لِأَنِّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ يَشْرَبُ اَلنَّبِيذَ وَ يُقَامِرُ فِي اَلْجَوْسَقِ وَيَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وَهَنَّيْتُ فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ فَقُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِ فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ وَاَلشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ اَلسَّمَّانُ وَاَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَتِيلُ اَلْمُعْتَصِمِ اَلْمَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ فَلَمَّا صِرْنَا فِي اَلدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى نَعْشِهِ مُكَفَّناً فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَى أَخِيهِ فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ بِشَعْرِهِ قَطَطٌ بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجٌ فَجَبَذَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلاَةِ عَلَى أَبِي فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاِصْفَرَّ - فَتَقَدَّمَ اَلصَّبِيُّ وَ صَلَّى عَلَيْهِ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ قَالَ: يَا بَصْرِيُّ هَاتِ جَوَابَاتِ اَلْكُتُبِ اَلَّتِي مَعَكَ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ بَيِّنَتَانِ بَقِيَ اَلْهِمْيَانُ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَزْفِرُ فَقَالَ لَهُ حَاجِزٌ اَلْوَشَّاءُ يَا سَيِّدِي مَنِ اَلصَّبِيُّ لِنُقِيمَ اَلْحُجَّةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ وَلاَ أَعْرِفُهُ فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ فَسَأَلُوا عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَعَرَفُوا مَوْتَهُ فَقَالُوا: فَمَنْ نُعَزِّي فَأَشَارَ اَلنَّاسُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَ هَنَّوْهُ وَقَالُوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً وَمَالاً فَتَقُولُ مِمَّنِ اَلْكُتُبُ وَكَمِ اَلْمَالُ فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ وَيَقُولُ تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ اَلْغَيْبَ قَالَ: فَخَرَجَ اَلْخَادِمُ فَقَالَ مَعَكُمْ كُتُبُ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ وَ فُلاَنٍ وَهِمْيَانٌ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْلِيَّةٌ فَدَفَعُوا إِلَيْهِ اَلْكُتُبَ وَاَلْمَالَ وَقَالُوا: اَلَّذِي وَجَّهَ بِكَ لِأَخْذِ ذَلِكَ هُوَ اَلْإِمَامُ فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى اَلْمُعْتَمِدِ وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ فَوَجَّهَ اَلْمُعْتَمِدُ بِخَدَمِهِ فَقَبَضُوا عَلَى صَقِيلَ اَلْجَارِيَةِ فَطَالَبُوهَا بِالصَّبِيِّ فَأَنْكَرَتْهُ وَاِدَّعَتْ حَبْلاً بِهَا لِتُغَطِّيَ حَالَ اَلصَّبِيِّ فَسُلِّمَتْ إِلَى اِبْنِ أَبِي اَلشَّوَارِبِ اَلْقَاضِي وَبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَجْأَةً وَخُرُوجُ صَاحِبِ اَلزِّنْجِ بِالْبَصْرَةِ فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَنِ اَلْجَارِيَةِ فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ وَاَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ .12
____________________________________
1- كشف الغمة، ج 3، ص 407.
2- أعلام الورى، ص 354.
3- تاريخ الغيبة: للصدر، ص 206.
4- غيبة الطوسي: ص 215 - 219.
5- كشف الغمة، ج 3، ص 280.
6- كشف الغمة، ج 3، ص 316.
7- تاريخ الغيبة: للصدر، ص 273.
8- كمال الدين: للصدوق، ص 138 - 108.
9- بحار الأنوار، ج 2، ص 51.
10- الأئمة الاثنا عشر، ص 242.
11- تاريخ الغيبة: للصدر، ص 283.
12- كمال الدّين وتمام النّعمة للشّيخ الصّدوق ( 475 ـ 476 ).
وإزاء ذلك كان الإمام يتحرك بيقظة وحذر وجدية من أجل أن يضمن سلامة أصحابه.. فكان يشرف بنفسه على قواعده الشعبية لغرض حمايتها والحفاظ على وجودها وتنمية وعيها، ومدها بكل أساليب الصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.. ويقف موقف الساعد والناصح الأمين والمنبه والمعين، يعينهم على نوائب الدهر ومصائبه اقتصادياً واجتماعياً جراء ما يلاقونه من معاملة قاسية..
وكان يحث أصحابه على العمل بهمة وسرية تامة، ويحذرهم من التمادي في إظهار العداء.. وعندما يستشعر الخطر يأمرهم بتكثيف العمل السري وكتمان الأسرار انطلاقاً من قول الرسول (صَلَى اَللَّهِ عَلَيْهِ وآلهِ)(اقضوا حوائجكم بالكتمان) أو يأمرهم بالكف عن النشاط مؤقتاً حين يكون مصدر خطر عليهم ويحمل لهم بوادر سوء.. أو عندما يكون أحدهم مراقباً من قبل جواسيس البلاط.. وينبههم من الأخطاء ويحذرهم خشية الوقوع في أحابيل السلطة وشراكها.. فقد كتب محذراً إلى {محمد بن علي السمري} وهو من خاصة أصحابه وأحد نواب الحجة المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غيبته الصغرى(فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة) (1).
ولم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات.. وقد اعتقل ذات مرة جماعة من أصحابه فبعث إليهم الإمام أحد أعوانه ليحذرهم من أحد المعتقلين.. وكان جاسوساً دس بينهم من قبل صاحب الشرطة {صالح بن وصيف} أخبرهم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يحذروا واحداً في الحبس يدّعي أنه علوي، وهو ليس منهم. وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه. فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)) (2).
وكان الإمام يمد أصحابه بالمال لتحسين أحوالهم المعيشية ويساعدهم لتطوير مصالحهم المادية العامة. ويوزع عليهم وعلى المحتاجين من الفقراء والمساكين الأموال الكثيرة التي تأتيه من الموالين لآل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومحبيهم، بطرق شتى وأساليب متنوعة عن طريق وكلائه المنتشرين في المناطق الإسلامية..
ولقد حرص الإمام على إخفاء أمر وصول الأموال وسبل توزيعها سراً، وبعيداً عن أنظار ومسامع السلطة.. وكان ذلك وحده دليلاً على مدى يقظته وعلى الدرجة العالية من الحذر التي يتبعها، حتى عدت معجزة من معجزاته... (كيف استطاع الإمام وهو المضطهد المراقب أن يستلم الأموال ويصرفها طبقاً للمصالح التي يراها دون أن تعرف الدولة شيئاً عن نشاطه هذا، بل تقف تجاهه مكتوفة الأيدي عاجزة عن كشفه، بالرغم من بذل أقصى وسعها في ذلك. وما انكشاف بعض هذه الأموال للدولة، إلا نتيجة لتقصير بعض الأطراف في الأخذ بهذا المسلك)(3).
(وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفذوا إلى {عثمان بن سعيد العمري السمان} الذي كان يتاجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه) (4).
ومع الحذر والحيطة السرية التي اتبعها الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقد كان يوصي أصحابه بالتزام الحق وعدم التهاون في الواجب (أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنك من بر وفاجر، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهذا جاء محمد(صَلَى اَللَّهِ عَلَيْهِ وآلهِ)، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسر في ذلك، واتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك) (5).
خلال عمره القصير شهد الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حكم ستة من ملوك بني العباس، ولم يرحمه أحدهم (اعتقل الإمام الحسن العسكري عدة مرات في سجون الظالمين من ملوك بني العباس) (6).
وكاد يفقد حياته في أكثر من مرة.. وأدرك أخيراً أن المعتمد الظالم لن يتركه بخير أمداً طويلاً.. كما لن يترك ولده المهدي(عج) على قيد الحياة إذا ما عرف به أو علم بيوم مولده، الذي حرص الإمام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)على إبقائه سراً.. ففي الجو المشحون بالحقد والضغينة على أئمة أهل البيت كان البلاط العباسي على علم تام بأنه آن الأوان (لبزوغ شمس المهدي) ولكن جهلهم بتاريخ ميلاده الذي أخفاه الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) جعلهم يتخبطون في أمرهم..
لقد أصدر المعتمد أوامره لمراقبة الحوامل في بيت الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حياته وعند وفاته، ظناً منه بوجود المهدي جنيناً في رحم إحدى نسائه.. غير أن يقظة الإمام وحذره خيبا مسعى الحاكم..
وبعد ولادة المهدي(عج) في ليلة النصف من شعبان عام (255هـ) في مدينة سامراء واجه الإمام العسكري مهمة شاقة لإثبات وجود ولده تجاه التاريخ وتجاه الأمة الإسلامية وتجاه قواعده ومواليه.. ومن ثم التخطيط لحمايته من أي أذى وسوء.. فلم يعلن عن ولادته (أخفى أمره كلياً) ولم يكشف عنه حتى لأقرب المحيطين به.. وأبعده عن عيون رجال السلطة ليضمن سلامته (حتى إن الخادم في بيت الإمام العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً) (7)، لكنه بالمقابل أطلع أصحابه المقربين جداً على أمر ولده وألزمهم بوجوب الكتمان... فـ(بعد أن تصدق عنه عشرة آلاف رطل خبزاً وعشرة آلاف رطل لحماً وعق عنه بذبح ثلاثمائة شاة، بعثها حية من يومه إلى بني هاشم والشيعة) (8)، بعث إلى الخاصة من أصحابه برسائل يخبرهم فيها بولادة الحجة ويعلمهم بأنه الوصي من بعده ويأمرهم بكتمان ذلك عن كل أحد.. قال محمد بن الحسن بن إسحاق القمي: (لما ولد الخلف الصالح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلى جدي أحمد بن إسحاق كتاب بخط يده جاء فيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعند جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته. أحببنا إعلامك ليسرك الله كما سرنا والسلام) (9) وروى عن إبراهيم صاحب الإمام العسكري أنه قال: وجه إلي مولاي أبو محمد بأربعة أكباش وكتب إلي: بسم الله الرحمن الرحيم هذه عن ابني محمد المهدي وكل هنيئاً وأطعم من وجدت من شيعتنا).
ونظراً للظروف القاسية والمعاناة الصعبة التي عاشها الإمام العسكري وفي خضم الحرب غير المعلنة التي شنها المعتمد والحقد المتصاعد ضد الشيعة، كان عليه أن يجاهد لإبقاء شعلة آل البيت متوهجة وضاءة.. والحفاظ على تراث ونهج الرسالة المحمدية.. وتطلب ذلك بالأساس (سلامة ولده). وعندها رأى ضرورة العمل والتبشير بفكرة (المهدي) الثورية ولكن بسرية تامة.. (إن الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حيث يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله على الأرض ليبدل خوفهم أمناً.. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً)(10)، يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد للغيبة..
ومع معرفته المطلقة أن بني العباس يعتبرون الغيبة تهديداً مباشراً لكيانهم، وخروجاً على سلطانهم، وتمرداً على دولتهم، لذلك فإنهم سيعملون على محاربتها بكل السبل وسيواجهونها بالبطش والإرهاب.. ومع الثقة بأن الأمر ليس سهلاً لإقناع البشر الذين اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب على هذا الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوزها إلى تفكير واسع.. مضى الإمام قدماً لإنجاز المهمة متخطياً كل الصعاب.
ولم يكن المجتمع الذي عاصره الإمام بواقعه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام المهدي(عج) لا مثيل لها في تاريخ الأمة.. لذا تحتم على الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يعمل بحذر ويخطط بدقة متناهية لتنفيذ الفكرة.. فبدأ التحضير والتخطيط لتعويد الناس على ما لم يعرفوه سابقاً، كي يستسيغوه دون استغراب ومضاعفات غير محمودة.
ومع وجود النصوص الكثيرة المتوالية، المتواترة والصحيحة عن النبي (صَلَى اَللَّهِ عَلَيْهِ وآلهِ)، والتي تبشر بالمهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). والتي أوردها مؤلفون معاصرون أو متقدمون لعصر الإمام العسكري(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.. فلقد وجد الإمام صعوبة في إقناع الناس بفكرة حلول زمان الغيبة، وتنفيذها في شخص ولده المهدي...
وتمهيداً لتحقيق الهدف الأسمى عمل الإمام العسكري (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أولاً على حجب ولده عن أعين الناس مع إظهاره لبعض أصحابه وإصدار تعليماته لهم. (ولعل أوسع إعلان قام به الإمام بين أصحابه عن ولادة ابنه قبيل وفاته بأيام، وكان مجلسه غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه، منهم محمد بن عثمان ومعاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب، يعرض عليهم ابنه ويقول لهم: هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم.. وهو القائم الذي تمد إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً) (11).
وهناك حادثة يستدل بها على وجود الإمام المهدي(عج) وكونه مولود وفي الحياة ،
حادثة أبو الأديان والإمام المهدي(عليه السلام):
حَدَّثَ أَبُو اَلْأَدْيَانِ قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَأَحْمِلُ كُتُبَهُ إِلَى اَلْأَمْصَارِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً وَ قَالَ: اِمْضِ بِهَا إِلَى اَلْمَدَائِنِ فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ اَلْخَامِسَ عَشَرَ وَتَسْمَعُ اَلْوَاعِيَةَ فِي دَارِي وَ تَجِدُنِي عَلَى اَلْمُغْتَسَلِ - قَالَ أَبُو اَلْأَدْيَانِ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ اَلْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي فَقُلْتُ زِدْنِي فَقَالَ: مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ اَلْقَائِمُ بَعْدِي فَقُلْتُ: زِدْنِي فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي اَلْهِمْيَانِ فَهُوَ اَلْقَائِمُ بَعْدِي ثُمَّ مَنَعَتْنِي هَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَمَّا فِي اَلْهِمْيَانِ وَخَرَجْتُ بِالْكُتُبِ إِلَى اَلْمَدَائِنِ وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا وَدَخَلْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ اَلْخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لِي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فَإِذَا أَنَا بِالْوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ وَإِذَا بِهِ عَلَى اَلْمُغْتَسَلِ وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ أَخِيهِ بِبَابِ اَلدَّارِ وَاَلشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يُعَزُّونَهُ وَيُهَنُّونَهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُنْ هَذَا اَلْإِمَامُ فَقَدْ بَطَلَتِ اَلْإِمَامَةُ لِأَنِّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ يَشْرَبُ اَلنَّبِيذَ وَ يُقَامِرُ فِي اَلْجَوْسَقِ وَيَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وَهَنَّيْتُ فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ فَقُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِ فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ وَاَلشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ اَلسَّمَّانُ وَاَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَتِيلُ اَلْمُعْتَصِمِ اَلْمَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ فَلَمَّا صِرْنَا فِي اَلدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى نَعْشِهِ مُكَفَّناً فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَى أَخِيهِ فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ بِشَعْرِهِ قَطَطٌ بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجٌ فَجَبَذَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلاَةِ عَلَى أَبِي فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاِصْفَرَّ - فَتَقَدَّمَ اَلصَّبِيُّ وَ صَلَّى عَلَيْهِ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ قَالَ: يَا بَصْرِيُّ هَاتِ جَوَابَاتِ اَلْكُتُبِ اَلَّتِي مَعَكَ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ بَيِّنَتَانِ بَقِيَ اَلْهِمْيَانُ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَزْفِرُ فَقَالَ لَهُ حَاجِزٌ اَلْوَشَّاءُ يَا سَيِّدِي مَنِ اَلصَّبِيُّ لِنُقِيمَ اَلْحُجَّةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ وَلاَ أَعْرِفُهُ فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ فَسَأَلُوا عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَعَرَفُوا مَوْتَهُ فَقَالُوا: فَمَنْ نُعَزِّي فَأَشَارَ اَلنَّاسُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَ هَنَّوْهُ وَقَالُوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً وَمَالاً فَتَقُولُ مِمَّنِ اَلْكُتُبُ وَكَمِ اَلْمَالُ فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ وَيَقُولُ تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ اَلْغَيْبَ قَالَ: فَخَرَجَ اَلْخَادِمُ فَقَالَ مَعَكُمْ كُتُبُ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ وَ فُلاَنٍ وَهِمْيَانٌ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْلِيَّةٌ فَدَفَعُوا إِلَيْهِ اَلْكُتُبَ وَاَلْمَالَ وَقَالُوا: اَلَّذِي وَجَّهَ بِكَ لِأَخْذِ ذَلِكَ هُوَ اَلْإِمَامُ فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى اَلْمُعْتَمِدِ وَكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ فَوَجَّهَ اَلْمُعْتَمِدُ بِخَدَمِهِ فَقَبَضُوا عَلَى صَقِيلَ اَلْجَارِيَةِ فَطَالَبُوهَا بِالصَّبِيِّ فَأَنْكَرَتْهُ وَاِدَّعَتْ حَبْلاً بِهَا لِتُغَطِّيَ حَالَ اَلصَّبِيِّ فَسُلِّمَتْ إِلَى اِبْنِ أَبِي اَلشَّوَارِبِ اَلْقَاضِي وَبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَجْأَةً وَخُرُوجُ صَاحِبِ اَلزِّنْجِ بِالْبَصْرَةِ فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَنِ اَلْجَارِيَةِ فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ وَاَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ .12
____________________________________
1- كشف الغمة، ج 3، ص 407.
2- أعلام الورى، ص 354.
3- تاريخ الغيبة: للصدر، ص 206.
4- غيبة الطوسي: ص 215 - 219.
5- كشف الغمة، ج 3، ص 280.
6- كشف الغمة، ج 3، ص 316.
7- تاريخ الغيبة: للصدر، ص 273.
8- كمال الدين: للصدوق، ص 138 - 108.
9- بحار الأنوار، ج 2، ص 51.
10- الأئمة الاثنا عشر، ص 242.
11- تاريخ الغيبة: للصدر، ص 283.
12- كمال الدّين وتمام النّعمة للشّيخ الصّدوق ( 475 ـ 476 ).
تعليق